سفاح الأقارب بين القانون والعرف الاجتماعي

إيناس ونوس:

لم يتمكَّن عقلها الصَّغير البريء الذي لمَّا يزل يتفتَّح على ما حولها في هذه الدُّنيا من الاقتناع وتصديق أنَّ ما حدث هو حقيقةٌ وليس محض تهيُّؤاتٍ صاغها خيالها الطُّفولي، فجلوسها في حضن أبيها كان يجعلها تمسك الكون برمَّته بين أناملها الصَّغيرة لتشعر بأمانٍ لا حدود له، لكنَّ كلَّ هذا رحل بعدما حدث، ليحلَّ محلَّه خوفٌ ورعبٌ من بقائها وحدها بصحبة أبيها.. نعم، أبوها!!! صورة الرَّجل الأوَّل في ذهنها كما هو في ذهن كلِّ فتاة.

صارت تتوسَّل أمَّها وكلَّ من في البيت كي يصحبوها معهم أينما ذهبوا خشية بقائها معه وحدها، في الوقت الذي كانت تموت فيه من الرُّعب لمجرَّد أن تفكِّر بأنها ستتلفَّظ بكلمةٍ واحدةٍ لأيٍّ كان عمَّا جرى، غير أنَّ كل ذاك التَّوسُّل لم يفضِ لأية نتيجة، فصارت تخترع الذَّريعة تلو الأخرى لتنشغل بأيِّ شيءٍ يساعدها على الابتعاد عن هذا الوحش، إلاّ أنَّها لم تكن لتنجح في كلِّ مرةٍ، وأخذت الأيام تمضي، وبدأ كلُّ من حولها يلاحظ أنَّها لم تعد تتعامل مع أبيها بالأسلوب السَّابق ذاته، وأنَّها باتت عديمة الاحترام، ذات لسانٍ طويلٍ لا يسكت ولا يهدأ، وباتوا يوبِّخونها على سلوكها، ويجبرونها على الاعتذار، فما كان منها إلَّا أن امتلكت الشَّجاعة ذات صباحٍ وباحت لأمِّها بكلِّ ما قام به ولا يزال ذاك الذي يُدعى أباً.

في البداية لم تصدِّق الأمُّ شيئاً ممّا سمعته، غير أنَّ صدمتها منعت لسانها من التَّلفُّظ بأيَّة كلمة، وطلبت من ابنتها أن تتكتَّم على الأمر فترةً حتى تتمكَّن هي من التَّصرُّف وإيجاد حلّ، وقد صمَّمت على أن تتأكَّد أوَّلاً بنفسها من كلِّ ما باحت لها به ابنتها.. فالمتَّهم هو زوجها، رفيق عمرها، أبو الضَّحية.. ابنتها!

جلست حائرةً، ويلها إن واجهته، فهو سينكر كلَّ ما تأكَّدت منه حتماً، وربَّما سيلحق الأذى بالفتاة وبها، وفي الوقت ذاته لا يمكنها أن تصمت حيال هذه الجريمة التي يندى لها الجبين، فماذا هي فاعلة؟

في روايةٍ أخرى لقصَّةٍ أخرى، وقفت الأمُّ في وجه ابنتها مهدِّدةً إيَّاها بالقتل إن هي عارضت رغبة أخيها، بل واتَّهمتها بأنَّها المسؤولة عن إغوائه ودفعه للقيام بهذا الفعل، فقد أخذت تقول لها: (كيف سيلبِّي أخوكِ حاجته تلك إذاً؟!).

أما تلك الفتاة التي أمست من بائعات الهوى ذائعات الصِّيت، فقالت وفي عينيها يلمع بريق الانتقام: (كلُّ ذكرٍ في عائلتي هو من دفعني لأكون على ما أنا عليه اليوم، ولأنَّهم كانوا أوَّل المعتدين عليَّ، وما من أحدٍ تمكَّن من الوقوف بوجههم حتَّى أبي، قرَّرت أن أمضي في هذا الطَّريق، فهو على الأقل يدرُّ عليَّ المال الذي أرغب، لاسيما أنني لم أعد مرغوبةً من أحد، فليتلقُّوا نتيجة ما اقترفت أيديهم و….. قذارتهم ووحشيتهم)! ونهضت ضاحكة.

هذه المشاهد غيضٌ من فيض ما تعيشه المرأة/ الفتاة في مجتمعٍ كمجتمعنا، يتبجَّح بالشَّرف والأخلاق وهو أبعد ما يكون عنهما، لاسيما في أيامنا هذه، فعلى الرَّغم من أن هذه القصص ليست وليدة اليوم بل إنَّها قديمة قدم الزَّمان، غير أنها اليوم تتفشَّى بشكلٍ غير مسبوق بلا أيِّ رادعٍ، إذ لم يعد للأخلاق ولا للقيم المجتمعية والأسرية أيَّة أهميةٍ أمام كلِّ هذه الجرائم التي يرتكبها البعض، ولا يقبلها عقلٌ ولا منطق.. وتحديداً في ظلِّ تغييب القانون وتغليب العرف الاجتماعي المسؤول الأوَّل والأخير عن بقاء المجرم حيَّاً طليقاً فارداً جناحيه على طول الأرض وعرضها، في الوقت الذي يُجرِّم فيه الضَّحية ويجعلها علكةً تلوكها الألسن، رغم كلِّ محاولات العاملين في مجال حقوق الإنسان وفي التَّنظيمات النَّسوية وعلى مستوى العالم لتجريمه وجعله عبرةً لغيره.

لكن، ومع كلِّ ما يجري على أرض الواقع، وبالرَّغم من تلك الذِّهنية المجتمعية العفنة، فقد بدأت أصوات النِّساء المعنَّفات المتعرِّضات لمثل هذه الجرائم بالارتفاع، في محاولةٍ منهن لإيقاف ما يجري والوقوف بوجه كلِّ معتدٍ لإبعاده عن باقي الفتيات والنِّساء عبر توعيتهنَّ ومحاولة الدِّفاع عنهن ومساندتهن، وهذا ما يبثُّ فينا الأمل بأن نحيا ذاك اليوم الذي نشهد فيه تجريم آخر مجرمٍ حاول الاعتداء على الإنسانية وكرامة أيةِ فتاةٍ أو امرأة سواء من قريباته أو من غيرهن.

العدد 1102 - 03/4/2024