العذاب الشهي (من ذكريات أيام النضال السري)

بقلم د. أيمن أبو الشعر:

يداي مشدودتان إلى الجدار، عارياً كنت إلا من بقايا إزار، صليب معاصر أنا.. واقترب الجلاد مرة أخرى لعلها الجولة العاشرة.. فليحاولوا من جديد.. لقد يئسوا من انتزاع اعتراف يبيّن لهم مكان المطبعة السرية وأسماء الرفاق الآخرين، إلا أن السجّان أصرّ على سحق الكبرياء الذي يشمخ بين جدران مذبحه، وكان يتساءل بغيظ شديد عن السر الذي يمنحني كل هذا الصمود، ويمنعني من الاستعطاف وطلب الرحمة، وكنت أبتسم.. ماذا لو أدرك السر؟!

يرتفع السوط من جديد.. فأغمض عيني استعداداً للرحيل: يتماوج جسد السجان البدين وتبدأ الرحلة.. ترتعش عيناي قليلا وتتشابك أهدابي كشبك سورٍ يقطع الرؤية إلى أشكال هندسية غير منتظمة تلفّها غباشة ممزوجة ببلل دمعة شحيحة.. وحين أطبق جفني تماماً تكون الرؤية قد غابت نهائياً وبدأت الرؤيا تتوضح رويداً رويداً.. ها أنت ذي قربي، رأسك على كتفي.. ننظر من نافذة الباص الذي يقلّنا إلى البلدة (س)، هناك سنلتقي بالرفيق (أبو ماجد) ونسلّمه المطبوعات.. وأعبث بخصلات شعرك فتتجهين بعينيك نحوي وما زال رأسك يتوسد كتفي.. أرى أنه قد انحدر قليلاً نحو صدري.. بحيرتان صافيتان تحاصرانني وقد أحاطت شاطئيهما أشجارٌ عالية، عندئذٍ أهمس في أذنك:

– هل تسمحين لي أن أستحمّ قليلاً!؟

– أين؟ – تقولينها بدلع حنون.

– في البحيرتين!

– أيّ بحيرتين؟! – تتغابين-

– في عينيك.. لا تغمضيهما، إنَّ تورّدَ خديك حياء يضفي عليهما ظلال جمال آسر.. ما أروع الشفق – وتشد يدك الصغيرة التي كادت أن تغفو في كفي تشدّ على أصابعي-دعيني أسبح!

– تقول إنني في روحك وموجودة فيك دائماً، أي إنني ذاتك وأنت تحب نكران الذات.. أي أنك ستنكرني.

– هذا غير معقول! أنا مستعد لأن أخاطر بنفسي لا بك (يضحك بدعابة).

– أما زال الطريق طويلاً؟- تتساءلين محاولة تغيير الموضوع فأجيب بعناد:

– لن أغيّر الموضوع.. نعم، بقي كثير من الزمن.

– أتعني أنه يعادل حبك لي؟ – تتساءلين بمكر مشاغب، فأجيبك بمكر مقابل:

– أيتها الماكرة الحلوة.. إن قسناه على قدر محبتي لك فلن نصل أبداً!

نضحك معا بمرح، وأتابع:

– هل تعلمين أن لذة الحب الممزوج بالعمل النضالي لا تعادلها أية لذة في الوجود؟!

– بلى! – تجيبين بمكر أيضاً.

– كيف؟ -أسأل وقد انطلى عليَّ مكرك المشاغب.

– بلى.. النضال الممزوج بالحب.

– آه أيتها الشقية، تتلاعبين بالألفاظ!

ننتبه إلى توقف الباص، لقد وصلنا! ونبدأ بالنزول فتقولين:

– كم أنا متعبة!

– بودّي لو حملتك، ولكنني لا أستطيع حملك مرّتين، فأنت هنا في قلبي.

– كم أنت بارع في الالتفاف! –تتبسمين-

– لأنك دائماً حولي. -نكون قد وصلنا إلى باب الباص-

– حسناً، هل ننزل؟

– ما دمت قربي فإننا سنصعد دائماً – أتابع المزاح-

– انتبه إلى الحقيبة! – تقولين ذلك ونحن ننتظر فتح مستودع الحقائب في الباص وحولنا الكثير من الناس.

– ها هي ذي.. تخيلي لو أن رجال الأمن فتشونا الآن.. سينتزعون منا كل شيء، فنحن عُزّل، لكنهم لن يستطيعوا انتزاع حلمنا بغد أفضل، ولا صورتك من مخيلتي. – تبتعدين خطوتين.

أنحني وأتناول الحقيبة، وعندما أهمّ بالسير:

– قف.. توقف! أرنا هذه الحقيبة! هل هذه السيدة معك؟

– كلّا كلا.. إنني وحدي.. إنها ليست معي.

يسيرون بي بعيداً عنك، وكلما كبرت المسافة بيننا ازداد اقتراب وجهك مني إلى أن تستوطني مخيلتي.

ترحل الغباشة المبللة شيئاً فشيئاً.. وتحلق الدوائر كدوامة.. وفي الوسط تماماً تتماوج كتلة لحمية كبيرة.. آه إنه السجان.. ها هو ذا يرمي السوط وقد أنهكه التعب ويمسح العرق عن جبينه.. إنه يتمتم بكلمات غير مفهومة يصل منها إلى مسامعي عبارة يقولها بغيظ:

– حتى إنه لم يصرخ.. كأنه مخدّر تماماً!

يمضي وعلى جسدي تواقيع جحود الزمن، فأبتسم وأقول في نفسي: لست مازوخياً، ولكني متأكد أنه لن يعرف أبداً لا مكان المطبعة ولا أسماء الرفاق ولا سرَّ تحول تعذيبه لي إلى عذابٍ شهيّ.

 

* من مجموعة قصصية قيد الطباعة بعنوان (اعترافات عاشق أو العذاب الشهي).

العدد 1104 - 24/4/2024