الذكرى الثالثة بعد المئة لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى

د.رياض شحيّد:

في مثل هذا اليوم قبل مئة وثلاثة أعوام، وفي صباح يوم السابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1917 الموافق للخامس والعشرين من شهر تشرين الأول (أكتوبر) 1917، أعلنت اللجنة العسكرية الثورية في بتروغراد (سانت بطرسبورغ حالياً)، إلى مواطني روسيا، عن الإطاحة بالحكومة المؤقتة، وانتقال سلطة الدولة إلى أيدي ممثلي العمال والجنود في مجلس سوفييت بتروغراد.

ولاحقاً بعد ظهر ذلك اليوم استُقبل لينين (الذي كان متهماً من قبل الحكومة البورجوازية المؤقتة قبل ثلاثة أشهر بوصفه معادياً للدولة) بحفاوة بالغة بعد خروجه من مخبئه، ودخل القاعة التي اجتمع فيها مندوبو السوفييتات. لقد وصف الصحافي الاشتراكي الأمريكي جون ريد وصفاً خالداً الزعيم البلشفي، وكتب: (إن لينين كان زعيماً شعبياً متميزاً، زعيماً وصل إلى الزعامة بفضل قدراته الفكرية، امتلك القدرة على شرح الأفكار العميقة بتعابير بسيطة، كما امتلك القدرة على تحليل الوضع الملموس، وجمع بين الدهاء وأكبر قدر من الجرأة الفكرية). وبعد أن شق طريقه إلى المنصّة، بدأ لينين كلمته إلى المندوبين بالكلمات التالية: (أيها الرفاق، إن ثورة العمال والفلاحين التي طالما تحدث البلاشفة عن ضرورتها قد تحققت).

لقد جابهت ثورة أكتوبر منذ الأيام الأولى لنشوئها جملة من التحديات الجسام في الداخل وفي الخارج، فقد تعامل المناشفة والإصلاحيون والاشتراكيون الثوريون مع الثورة بوصفها ثورة قومية أساساً. وأصروا على أن الإطاحة بالنظام القيصري لم تكن سوى ثورة قومية_ ديمقراطية، وأرادوا حصر مهام الثورة بعملية استبدال النظام القيصري بنظام جمهوري برلماني (وفق النموذج القائم في فرنسا أو في بريطانيا) مسخر لتطوير الاقتصاد الروسي على قاعدة رأسمالية. وكانوا يعتبرون أن الإطاحة بالطبقة الرأسمالية، واستحواذ الطبقة العاملة على السلطة أمر مرفوض بشكل مطلق. لكن خضوع الطبقة العاملة للحكم البورجوازي كان يعني استمرار دعم مشاركة روسيا في الحرب العالمية الأولى التي بدأت في عام 1914. لقد كان لينين يعتبر أن هذه الحرب هي نتيجة للتناقضات بين الدول الرأسمالية، وأن تناقضات النظام الرأسمالي ستولد بالضرورة استجابة ثورية من قبل الطبقة العاملة العالمية. لذلك أصر لينين على ضرورة فهم الثورة الروسية بوصفها بداية ثورة اشتراكية عالمية.  وكان قد قال في المؤتمر السابع للحزب البلشفي: على البروليتاريا الروسية ألا تنسى أن حركتها وثورتها ليستا سوى جزء من حركة البروليتاريا العالمية الثورية التي تكتسب زخماً جديداً كل يوم في ألمانيا على سبيل المثال، ولا يمكننا تحديد مهامنا إلا انطلاقاً من هذه الرؤية.

وهكذا في خضم كابوس الحرب العالمية الأولى التي كان ضحيتها، مع حلول شهر أكتوبر 1917 ملايين القتلى، كانت ثورة أكتوبر حدثاً أممياً يجعل ما كان شبحاً عام 1847 حقيقةً واقعية.

إن قيام الثورة الاشتراكية في روسيا لم يكن متوقعاً، وحتى بعد قيام الثورة كان الكثيرون يشككون بقدرتها على الاستمرار وعلى إنجاز مهام الثورة البرجوازية وتكوين طبقة عاملة قوية. لقد سمعت روزا لوكسمبورغ بالثورة وهي في السجن، وكتبت حول نفاد صبرها وهي تنتظر صحف الصباح لتتابع التطورات في روسيا. وعبّرت عن شكوكها في قدرة الثورة على البقاء مواجهةً معارضة العالم الرأسمالي المسلحة، لكن لم يساورها أيّ شك في عظمة الحدث وكتبت: (إن الثورة التي يقودها البلاشفة هي فعل تاريخي عالمي سيظل مثالاً ملهماً إلى زمن غير محدود). ولكن مع مرور الزمن تمكنت ثورة أكتوبر بإنجازاتها العظيمة المتتابعة من إبهار العالم ونيل إعجاب الجميع وبضمن ذلك أعداء الاشتراكية. ففي الذكرى الخامسة والعشرين لثورة أكتوبر، كتب الزعيم التروتسكي الأمريكي جيمس بيرنهام متذكّراً وقع أحداث 1917 على الاشتراكيين في سائر أرجاء العالم:

(للمرة الأولى صار لدينا، فيما يتعلق بالفعل الثوري، برهانٌ واقعي عن معنى الماركسية.. يجب على الذين يتذكرون ذلك الزمن، والذين ارتبطت حياتهم بالثورة الروسية التفكير في ذاك الحدث بوصفه أسمى مثال ملهم وتعليم عرفته الطبقة المضطهدة على مرّ الأزمان).

نعم، إن ثورة أكتوبر تندرج ضمن أعظم الأحداث وأكثرها تقدمية في تاريخ الإنسانية. لقد كان الأثر الشامل لثورة أكتوبر يفوق التصور، فقد مثلت حدثاً كان بمثابة الشرارة الأولى التي حركت الطبقة العاملة في سائر أرجاء العالم، كما حفزت الجماهير المضطهدة ضد الاستغلال الرأسمالي وضد القمع الإمبريالي. ومن الصعب إيجاد أي إنجاز سياسي أو اجتماعي للطبقة العاملة خلال القرن العشرين في أي مكان من العالم دون ربطه إلى حد كبير بثورة أكتوبر، وفضلها في الإنجازات التي حققتها. إن إقامة الدولة السوفييتية كان الإنجاز العظيم الأول لثورة أكتوبر. لكن إنشاء هذه الدولة لا يغطي كل الدلالة التاريخية لثورة أكتوبر، فلم يكن تأسيس الدولة السوفيتية سوى الحلقة الأولى في عصر جديد هو عصر الاشتراكية.

 لقد أثبتت ثورة أكتوبر عملياً إمكانية وصول الطبقة العاملة إلى السلطة، وإنهاء حكم الطبقة الرأسمالية وتنظيم المجتمع على أساس اشتراكي.

إن تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991 لا يدل على نهاية عصر الثورة الاشتراكية، وفشل الاشتراكية. إن الإنجازات العظيمة التي حققتها ثورة أكتوبر خلال 74 عاماً قبل تفكك الاتحاد السوفيتي لشعوب الاتحاد السوفييتي السابق ولشعوب العالم تدحض هذا الاعتقاد.  ولولا الاشتراكية لما كانت روسيا دولة عظمى، ولكانت معظم جمهوريات الاتحاد السوفييتي كأفغانستان حالياً وليس أفضل.

المجد لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى!

المجد لنضال الشعوب في سبيل العدالة والمساواة والاشتراكية!

العدد 1104 - 24/4/2024