منعطف استراتيجي نحو بناء روسيا الجديدة

رزوق الغاوي:

-1-

شكلت التعديلات الأخيرة على الدستور الروسي، بموافقة شعوب الاتحاد الروسي بمكوناتها متعددة القوميات والثقافات والديانات واللغات والعادات والتقاليد، منعطفاً نوعياً ذا بعدٍ استراتيجي، ومنطلقاً لبناء روسيا جديدة تستند إلى برنامج استراتيجي الأهداف يشمل مجمل جوانب الحياة الروسية السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والثقافية، كما يشمل العلاقات بين روسيا ومختلف بلدان العالم وبين شعوب الاتحاد الروسي وشعوب العالم.

 ومن يقرأ مابين سطور هذا المنعطف النوعي يدرك أن على رأس أهدافه الاستراتيجية،  ترسيخ القطبية الروسية وتعزيز دور روسيا كدولة عظمى في التعاطي مع القضايا الدولية ومعالجتها بما يضمن من جهة أمن الاتحاد الروسي، ومصالحه وحقوق شعوبه، وأمن باقي شعوب العالم ومصالحها وحقوقها من جهة أخرى، وما يتطلبه ذلك من إقامة علاقات دولية جديدة ذات مضامين إنسانية تقوم على الثقة والصراحة والشفافية والاحترام المتبادل والصدق، وتنتفي منها الألاعيب والمناورات السياسية والنوايا الخبيثة المغلفة بشعارات إنسانية مزيفة أكل الدهر عليها وشرب، وعناوين تقليدية بالية مكشوفة لم تعد تنطلي على أحد.  

ومن يطلع على تلك التعديلات الدستورية، يدرك حقيقة ومرامي خلفياتها الاستراتيجية المتصلة بالشأن الروسي داخل أراضي الاتحاد الروسي وخارجها، حيث سيحدد مجلس الدولة (توجه السياستين الداخلية والخارجية والأولويات الاجتماعية والاقتصادية)، مستنداً على الرؤية الراهنة والمستقبلية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لروسيا المستقبل وذهابه نحو تجسيد تلك الرؤية بما تحمله من قيم ومبادئ ومثل وأولويات اجتماعية وإنسانية، تنطلق من حرصه على مصلحة البلاد وقوله (نريد العيش فيها ونريد أن نسلمها إلى أطفالنا):

أولاً، (وعلى سبيل المثال لا الحصر) من خلال إضافة بنود إيديولوجية للدستور تمنع أي فعلٍ يهدف إلى مصادرة أية أراضٍ روسية أو يدعو إلى ذلك، مع حماية (الحقيقة التاريخية) عن الحرب الوطنية الكبرى بين عامي 1941 و1945، ومنع (الاستهانة) بمآثر ومنجزات من قاتلوا فيها، ومنع المسؤولين الروس من اقتناء جوازات سفر أجنبية أو إقامات أجنبية أو حسابات في بنوك أجنبية.

وثانياً، من خلال إضافة بنود اجتماعية تشجع التعليم الوطني وتمنع زواج المثليين وتحمي المؤسسة الزوجية بوصفها ارتباطاً بين رجل وامرأة مع الإشارة إلى إيمان الشعب الروسي بالله حسب ما ورثوه من أسلافهم، والعمل من جهة أخرى على ربط معاشات التقاعد بمؤشر المستهلك (مستوى التضخم) على ألا يقل الحد الأدنى للأجور عن الحد الأدنى للدخل الذي يضمن مورداً مناسباً العيش.

وبصدد ما تقدم يقول الرئيس بوتين: (أنا مقتنع تماماً بأننا نفعل الشيء الصحيح باعتماد تعديلات دستورية ستعزز دولتنا وستخلق الظروف للتطور التدريجي لبلدنا لعقود قادمة)، لافتاً إلى أنه سيمنح بموجب تلك التعديلات جزءاً من سلطاته المهمة للغاية إلى البرلمان، ما يشكل خطوة أخرى نحو (دمقرطة المجتمع الروسي) بصورة تدريجية ومن دون أية هزات.

-2-

 حين نأتي على علاقات الصداقة بين الشعب الروسي والشعوب الأخرى، حريٌّ بنا أن نستذكر مراحل علاقات الصداقة بين الشعبين السوري والروسي، التي تعود إلى أكثر من ألف عام بدءاً من العهد (القيصري) ونشوء البطريركية الأرثوذوكسية الروسية، مروراً بمرحلة الثورة البلشفية، فالمرحلة السوفييتية التي شهدت العلاقات في خلالها تطوراً نوعياً تمثل بإنجاز تاريخي مثلته معاهدة الصداقة والتعاون الاستراتيجي، ثم استمرت وبلغت مستوىً متقدماً بعد المرحلة السوفييتية، منذ تولي الرئيس فلاديمير بوتين قيادة الدولة الروسية حتى اللحظة الراهنة، وما تخلل هذه المرحلة ويتخللها من أحداث دراماتيكية خطيرة مفتعلة ومستوردة من الخارج، حملت في ثناياها ولاتزال نيات غربية صريحة ومحاولاتٌ مشبوهة لضرب المصالح المشتركة للبلدين والشعبين السوري والروسي.

مرد ذلك، أن القواسم المشتركة بين البلدين كثيرة ومتعددة، وأن العلاقات بينهما التي لم تتأثر بالظروف والأحداث التي رافقتها، بل والأكثر من ذلك، أنها ازدادت متانة وصلابة بفعل المواقف السياسية المتطابقة لكل من دمشق وموسكو ضد مشاريع ومخططات الامبريالية والرأسمالية المتوحشة الرامية للهيمنة الغربية على ثروات الشعوب ومقدراتها، والمؤيدة لحركات التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي في مختلف بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، تبدو الإشارة مهمة لتشابه موزاييك مكونات شعبي سورية وروسيا، والتاريخ البعيد الذي ربطهما من خلال علاقات سياسية واقتصادية وثقافية وأخرى (اجتماعية إنسانية) تبدَّت عبر آلاف حالات الزواج القائمة بين مواطنين سوريين ومواطنات روسيات على مدى ما يزيد بكثير عن نصف قرن.

وتبدو مفيدة الإشارة هنا إلى أن سورية الملتزمة فعلاً سياستها الخارجية المبدئية، ومواقفها النابعة من تلك السياسة، تحرص على صيانة صداقاتها مع البلدان الأخرى المنطلقة من المصلحة المشتركة والمنفعة المتبادلة والقائمة على الثقة المتبادلة والاحترام المتبادل.

السبت 25/7/2020

العدد 1104 - 24/4/2024