حرب التجويع

بولس سركو:

ليست حرباً بل سلسة من حروب متنوعة الأشكال ضد بلدنا، بدأت بحرب ناعمة قامت على تجييش الشارع السوري مذهبياً، وهيّأت للتحول إلى حرب التطرف والإرهاب بالوكالة، ضخت فيها من الإمكانات المادية (الأطلسية – الخليجية) ما يكفي لإطعام كل فقراء العالم، دون أن تصل إلى غايتها، انتقلت إلى حرب مباشرة وعدوان عسكري مكشوف أمريكي بريطاني فرنسي تركي واسرائيلي مخالف لكل الأعراف والمواثيق والشرعية الدولية، أخفق في إخضاع الدولة السورية مما استدعى قوى العدوان للجوء إلى حرب تجويع الشعب السوري، وهي واحدة من أخطر أشكال الإرهاب الاقتصادي الذي دأبت الإدارات الأمريكية على استخدامه بهدف إخضاع دول مستقلة ترفض التنازل عن سيادتها أمام الهيمنة الأمريكية اللامشروعة واللاأخلاقية واللاإنسانية.

سياسة العقوبات الأمريكية أو الحصار الاقتصادي هي جريمة في منتهى الوحشية والوقاحة، طالت العديد من دول العالم بنسب متفاوتة، أكثرها ظلماً كانت ضد كوبا وفنزويلا وكوريا الشمالية وإيران والعراق وسورية التي تتعرض لهذه العقوبات منذ زمن طويل، لكنها اتخذت منحى تصاعدياً بدءاً من عام 2003 كردّ اعتبار من إدارة الرئيس جورج بوش الأبن على الخيبة التي حملها معه وزير خارجيته كولن باول، العائد من دمشق دون موافقة الرئيس بشار الأسد والقيادة السورية على الشروط والإملاءات الأمريكية التي تمس السيادة السورية، فاستصدرت تلك الإدارة ما سمي بقانون محاسبة سورية ليضيف عقوبات جديدة على عقوبات سابقة قائمة أصلاً.

عام 2011 شُدِّدت العقوبات فصارت تشمل التعاملات المصرفية وحظر توريد السلاح ومنع استيراد النفط والغاز وتجميد أصول سورية ومنع سفر شخصيات سورية، ويكفي أن تلمح واشنطن مجرد تلميح كي يهرع أتباعها الأوروبيون والخليجيون لمبارزتها في مخالفة القانون الدولي وتلبية نزوعها العدواني، فالاتحاد الأوربي، وهو أكبر الشركاء التجاريين لسورية، أوقف على الفور شراء السندات السورية والتعاون المالي، ومنع البنوك السورية من فتح فروع لها في أراضيه وجمّد إمكانية استفادة سورية من بنك الاستثمار الأوربي، كما يقول الدكتور عابد فضلية أستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق، لقناة سبوتنيك الروسية، وقد أكد الأثر الكبير لذلك على الاقتصاد السوري، مضافاً إليه حصار جائر دون وجه حق فرضته جامعة الدول العربية التي أوقفت جميع التعاملات المالية وخاصة مع المصرف المركزي السوري، وتمويل المشاريع الاستثمارية كما فعلت تركيا مضيفة تجميد أحكام اتفاقية التجارة الحرة الثنائية.

وأشار الدكتور فضلية إلى أن العقوبات تسببت في انخفاض حجم التجارة الخارجية إلى حوالي 35% وتراجع الواردات وارتفاع تكلفة التحويلات المالية الخارجية مع الصين وبلدان آسيا، لاضطرار الفعاليات الاقتصادية إلى اللجوء لفريق ثالث، وأحياناً رابع وخامس لإتمام صفقات استيراد وتصدير اصبحت تكاليف شحنها وبوالص تأمينها باهظة، مما تسبب برفع أسعار السلع التي يحتاجها المستهلك السوري وارتفاع معدلات التضخم وانخفاض قيمة العملة الوطنية والقدرة الشرائية لمحدودي الدخل وهم يشكلون أكثر من 80%.

خلال الأيام الماضية مع اقتراب موعد تطبيق قانون قيصر الأمريكي الظالم ضد سورية، ازدادت الأسواق توتراً بشكل غير مسبوق، فانخفاض قيمة الليرة وصل إلى أدنى المستويات، وتراجع مستوى معيشة الطبقة الفقيرة العريضة بلغ حد الخطر الأكبر الذي واجه البلاد منذ الاستقلال، في ظل غياب الشفافية والتصريحات الرسمية للمسؤولين الاقتصاديين السوريين، والأسوأ: غياب خطة لمواجهة الحصار ومراجعة نقدية للسياسة الاقتصادية وقوانين السوق الحر التي توفر للمحتكرين والسماسرة وكبار التجار وحيتان المال حرية الحركة واستثمار الظروف الصعبة لجني المزيد من المليارات، مع توسع رقعة الفقر والبطالة، مما ينبئ بأسوأ الاحتمالات، فالشارع العاجز عن تأمين أبسط متطلبات معيشته يجتاحه شعور عام بالإحباط والخيبة والاستياء وفقدان الثقة والأمان والأمل بحلول ممكنة، وذلك لأنه يشعر أن من ينهب لقمة عيشه ليس من يفرض الحصار الخارجي فقط، بل أيضاً هذه الطبقة الطفيلية من تجار الحرب غير العابئة بالمخاطر المحتملة من تحقيق واشنطن أهدافها بالوسائل الاقتصادية التي عجزت عن تحقيقها بالوسائل الأخرى.

لقد أكدت وثائق المؤتمر الثالث عشر للحزب الشيوعي السوري الموحد المنعقد بتاريخ 28/11/2019 على وضوح وحدّة الصراع الطبقي بين طبقة كبار الرأسماليين والطغم المالية وأثرياء الحرب، وطبقة العمال والفلاحين وصغار المنتجين، كما أكدت أن الحل هو إعادة اعتبار دور الدولة الإداري والرعائي في الاقتصاد ودعم القطاع العام والسير على طريق التنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية.

لكن لا أحد من المنتفعين الذين يفضلون مصالحهم الأنانية على مصلحة البلد، كما يبدو، يرغب في الحل وتحاشي المخاطر الكبيرة المترتبة على هذا الصراع الطبقي، وقطع الطريق على إمكانية نجاح واشنطن في تركيع سورية، مع كل التصميم الأمريكي الواضح والإمعان في وسائل تجويع الشعب السوري بوقاحة نادرة وصلت حد السرقة العلنية لحقول النفط السوري وإحراق المحاصيل الزراعية في منطقة الجزيرة وخاصة القمح، لإفراغ السلة الغذائية السورية من خيراتها، وهي جريمة حرب تضاف إلى  غيرها من الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال الأمريكي أمام أعين العالم، فافتعال الحرائق التي امتدت إلى آلاف الهكتارات المزروعة بالقمح هو إمعان في تهديد الأمن الغذائي لأوسع طبقة اجتماعية، بهدف فرض خيارات سياسية خبيثة وإملاءات خارجية عليها وتقويض أية فرصة أمام الدولة لتأمين حتى لقمة الخبز لمواطنيها.

العدد 1102 - 03/4/2024