لذلك قلنا إنها عولمة متوحشة

بولس سركو:

نقلت عدة مواقع إلكترونية منها (ماروك ليكس و باهزاني نيت وفوربس والمحور المصري وإضاءات وغيرها ) حديثاً للرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول النظام العالمي الجديد أمام الأمم المتحدة عام 2019، لم أتأكد من مصداقيته لعدم وصولي إلى المصدر الأصلي، لكنني لا أستبعد محتواه نظراً للوقائع  الحاصلة وطبيعة تصريحات ترامب الوقحة من وقت لآخر، ولكن سواء كان المنشور لترامب أو منسوباً إليه، فإن ما يستوجب التوقف عنده أنه في المحصلة خطاب يعبر تماماً عن الطبيعة الإجرامية المتوحشة للإمبريالية المعاصرة ونمط  التفكير المنحط لرموزها .

ملخص المنشور، أن سيد البيت الأبيض قرر أن يخبر الحضور إلى أين يتجه العالم عبر استعراض تاريخي لأربعمئة عام قائلاً: تذكرون أن أول دولار طبع عام 1717 ولكي يحكم هذا الدولار كان العالم بحاجة إلى ثورة فكانت الثورة الفرنسية عام 1789 التي أنهت 5000عام من حكم الأديان ليبدأ نظام عالمي جديد محكوم بالمال والإعلام، لا مكان فيه لله ولا للقيم الإنسانية. يتابع : إننا عينة من هذا النظام فقد أوصلني إلى رئاسة أقوى دولة مع أنني أدير مؤسسات للقمار، ما يعني أن المصالح وليست الأخلاق من يحكم، عليكم أن تفهموا أن النظام العالمي الجديد لا يوجد  فيه مكان للأديان، لذلك أنتم تشاهدون كل هذه الفوضى، إنها ولادة جديدة ستكلف الكثير من الدماء ، توقعوا مقتل عشرات الملايين حول العالم ونحن غير آسفين، سنقتل الكثير من العرب والمسلمين ونأخذ أموالهم ونحتل أراضيهم ونصادر ثرواتهم، وما سنفعله بهم هو أقل بكثير مما يفعلونه بأنفسهم، فمن حقنا ألا نأمن لهم لأنهم خونة وأغبياء وكاذبون ويتقاتلون طائفياً، فالمنطق يبرر عدم وجودهم، أما صراعنا مع إيران فنحن نحاول تدميرها لأن شرط بقاء الأقوى في العالم هو إضعاف الجميع، في الماضي كنا نقلب الأنظمة وندمر الدول بحجة الديمقراطية لكننا لن نختبئ وراء أصبعنا فأمريكا لم تعد شرطي العالم بل هي  شركة والشركة تبيع وتشتري وهي مع من يدفع أكثر، أنا أعرف أن مصانع السلاح تعمل ولا يعنيني من يموت وهذا ينطبق على الجميع، لن نسمح بوجود شعوب حرة في المنطقة ولا بإيقاظ هذه الشعوب ولن نسمح لأيّ جهة كانت الوقوف في وجه سيطرتنا على المنطقة، لذلك وضعنا ايران أمام خيارين: إما الحرب أو الاستسلام! وفرضنا عليها أقصى العقوبات التي ستوصلنا إلى الحرب التي لن يربحها أحد غيرنا لأننا سنستخدم فيها كل ما توصلنا إليه على كل الصعد العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية.

تذكرت وأنا أقرأ الحديث تهويل الأدبيات الماسونية وأسلوبها التعبوي  الذي يوحي لقارئها نفسياً وكأن الماسون إله أدار وتحكم بحركة البشرية برمتها عبر التاريخ علماً بأن التدقيق في تفاصيل هذه الأدبيات لا يكشف فقط الزيف والكذب والتشويه ومغالطات تاريخية كبرى بل  يكشف أيضاً أحادية الرؤية والتناقض والقصور في فهم وتفسير الطبيعة البشرية والعلاقات الاجتماعية والأحداث التاريخية، على قاعدة (أنا ) مشبعة بالفردية المفرطة والفوقية وجنون العظمة وهوس امتلاك القوة واستخدامها، والتسلط والعنصرية البغيضة وفوق كل ذلك التخلف الفكري والارتباط الرجعي للوعي بالأسطورة القديمة، تخيلت أسطورة الخلق التوراتية وأنا أقرأ أسطورة ترامب عن خلق النظام العالمي الجديد بمشهد فائق السوريالية يؤديه كائن مادي ولد عام 1717 ليحكم العالم هو الدولار، ثم انتحل صفة قائد ثوري يحرك وهو في الثانية والسبعين من العمر، منفرداً جماهير باريس لتسقط خمسة آلاف عام من حكم الميثولوجيا الدينية وتبدأ عصر المصالح، وما تتضمنه هذه الرؤية من ضيق أفق واستهزاء بعقول الناس والمؤرخين والباحثين وعلماء الاجتماع والفلاسفة .

 (الدولار) يحل محل كل ما هو موجود في العالم ، في مخيخ ترامب وعصابته من قطاع الطرق مدعي ومستغلي العلمانية لغايات أنانية صرفة، يحل محل العلاقة بين الوجود والوعي، محل المنطق، محل الجدل، محل العلم والمعرفة والآداب والفنون، محل الإنسان وسعيه للتقدم والحضارة وحلم العيش بسلام وأمان وعدالة اجتماعية، محل صراعاته التاريخية والتناقضات التي تحكم حياته الاجتماعية وتقلباتها وتطورها أو توقفها عن التطور، ومحل كل الأسباب الموضوعية والذاتية للظواهر، محل كل الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي أدت الى الثورة الفرنسية، وقد بدت له مجرد ثورة ضد سلطة الكنيسة، كرّست قيادة الدولار لعالم ظالم غير معني بالأخلاق ولا بالقيم الإنسانية، فلو أصبحت هذه فعلاً صفات عالم أخضع بالترهيب طوال 400 عام لتتحول  البشرية  إلى قطيع يتجه بإشارة عصا راعيه السحرية التي تمتلك من التكنولوجيا ما لم تمتلكه (عصا موسى المعجزة) التي انقلبت إلى ثعبان وضرب بها الحجر فانفجر منه الماء كما ضرب البحر فانفلق ليعبره بنو إسرائيل، لكن  حقيقة العالم مهما يكن ليست منسوجة من الهوس والرغبات المرضية لمالكي القوة، بل تكمن في العلاقة بين النقائض، في التراكم الكمي التاريخي الدافع للتبدل والتطور، في مفرزات واقع محكوم بولادة إنسانية جديدة لن تكون حتماً سوى نقيض أمنيات واًحلام الترامبيين، هكذا هي قوانين التطور الاجتماعي، إذ لا يمكن حصر مسار التاريخ ضمن نموذج جاهز في خيالات وخطط بعض الأفراد أو الجماعات غير الانسانية وضحلة التفكير.  

رغم ذلك لا يمكن أيضاً الاستهانة بالنمط الإرهابي لتفكير هؤلاء، ولا الاستهتار بالتهديد الخطير الجدي الذي يشكله على الحياة البشرية ولا بد من التعامل بكل العقلانية المطلوبة لمواجهة جنون قتلة يمتلكون الحوافز والجهوزية والإمكانيات لارتكاب إبادات كبرى للجنس البشري بأحدث الوسائل التكنولوجية، إننا أمام مهمة ملحة لدفع التناقضات نحو ذروتها  بعمل نوعي تتوحد عليه كل القوى المناهضة للعولمة المتوحشة  لتوعية الشعوب وخلق أساليب تحقيق أمنها وأمانها، فهذه العولمة لم تعد تهدد فقط مليارات البشر بالإفقار والتهميش والتمييز بل بالإبادة الجماعية، أليس التهديد بقتل عشرات ملايين العرب هو جزء من نظرية المليار الذهبي الماسونية؟

تقول هذه النظرية إن موارد كوكب الأرض لا تستطيع تلبية احتياجات السبعة مليارات من سكانه، لأنهم لو أرادوا جميعاً أن يعيشوا بمستوى حياة المواطن الأمريكي لكانوا بحاجة إلى موارد ستة كواكب أخرى! وقد بنيت على أبحاث الاقتصادي الإنجليزي (توماس مالتوس) في القرن التاسع عشر الذي قال  إن نسبة تزايد الثروات أقل بأضعاف من نسبة تزايد السكان، ما يجعل الحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية ضرورة موضوعية للإبقاء على التوازن، وهي عبارات خطيرة ملطفة تكشف النية المبيتة لحروب معلنة ضد الجنس البشري وإبادة مليارات منه وليست مجرد أمنيات، ففي عام 1975 أعلن نادي روما وهو من أهم مراكز البحث الرأسمالية الرئيسية، التمسك بنظرية المليار الذهبي على معايير (الثروة ، السكان ، توزيع الثروة) وضرورة وقف التضخم السكاني والحفاظ على 3 مليارات فقط من البشر، مما يعني أن التخطيط لإبادة 4 مليارات من البشر موجود وأما الثلاثة الباقون فإن مليار سيد منهم يعيش على حساب مليارين من العبيد منحوا حق الحياة لخدمته.

هذا هو جوهر حقيقة أسياد النظام العالمي الجديد، ولذلك قلنا إنها عولمة متوحشة.

العدد 1104 - 24/4/2024