تركيا تستعد لعدوان جديد في إدلب

صفوان داؤد:

في الوقت الذي تنشغل فيه دول العالم بتداعيات كورونا، ومنها الدول المعنية بالشأن السوري، تتجه كل من تركيا وروسيا إلى إعادة ترتيب أوراقها في محافظة إدلب، تمهيداً على ما يبدو لمرحلة تصعيد جديدة، قد تكون مفصلية على مستقبل المنطقة العسكري والسياسي. فالخلافات بين القوتين الفاعلتين على الارض السورية كانت قد اتسعت في الآونة الأخيرة، وسط مواصلة أنقرة تحشيد قواتها.

وكانت قد جرت معارك عنيفة استمرت لأشهر بين فصائل المعارضة المسلحة والجيش السوري، تمكّن فيها هذا الأخير من استعادة الريف الشمالي لحماة حتى مدينة خان شيخون، واستمر تقدم الجيش تحت غطاء جوي روسي، وتهاوت أمامه البلدات واحدة تلو الأخرى وبضمنها معرة النعمان وسراقب المطلّتان على الطريق الدولي الواصل بين مدينتي دمشق – حلب، وتمت السيطرة عليها تماماً.

الآن، وبعد مضي فترة من الهدوء النسبي التزمت فيها جميع الأطراف بخفض التصعيد، تغيّرت الأمور.

الملاحظة الأكثر ثباتاً الآن هي تعزيز تركيا المستمر لقواتها العسكرية عبر إدخال أرتال عسكرية، وإقامة نقاط مراقبة جديدة. وبحسب صحيفة (الشرق الأوسط_ 12 نيسان 2020)، أدخلت القوات التركية 2460 آلية عسكرية إلى إدلب، وأشارت مصادر أخرى إلى أن هذه القوات تضمنت ثلاث منظومات للدفاع الجوي، من نوع (أتلغان)، ومنظومات لإطلاق صواريخ (ستنجر) تُستخدم لحماية الوحدات المتنقلة والقوافل العسكرية، إضافة إلى آلاف الجنود قُدّر عددهم، بحسب معهد دراسات الحرب الأمريكي، بنحو 20 ألف جندي. وبحسب هذا المعهد ينتمي هؤلاء الجنود إلى القوات الخاصة التركية ذات الخبرة، يقودهم لواء (الكوماندوز الخامس) المتخصص في العمليات شبه العسكرية والحروب الجبلية. ورفع الجيش التركي خلال فترة الهدوء التي سادت الشهرين الماضيين من عدد نقاطه العسكرية في منطقة خفض التصعيد شمال غربي سورية من 12 إلى 58 نقطة، آخرها نقطة مراقبة أنشأها في مدرسة قرية الكفير التابعة لمدينة جسر الشغور، وتشرف هذه النقطة على ريف إدلب الغربي، وترصد أجزاء كبيرة من سكة القطار. كما لوحظ نشاط لآليات هندسـية وحفارات تركية تقوم برفع سواتر ترابية على المحاور الشرقية لبلدة آفس بالقرب من مدينة سـراقب.

بشكل متزامن مع إدخال تركيا قواتها الغازية إلى الأراضي السورية، تسعى أنقرة بشكل محموم لفرض ترتيبات جديدة على الفصائل الإسلامية المسلحة المنتشرة في إدلب وريفها، ومحاولة ضبطها تحت مظلة عسكرية واحدة، بإشراف ومتابعة من الولايات المتحدة. وكانت ظهرت مؤشرات عن هذا الدور لواشنطن في إعادة هيكلة القوى العسكرية في إدلب في الفترة الماضية، منها ما صرّح به جيمس جيفري (المبعوث الأمريكي الخاص إلى سورية) قبل شهرين، بأنه لم يُشهَد لهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) أنها مثّلت تهديداً على المستوى الدولي. وهي تعرّف عن نفسها أنها تمثل معارضة (وطنية)، لكن أمريكا لن تقبل هذا التوصيف من الآن وصاعداً. مثل هذه التصريحات توحي بالدور الكبير الذي تقوم به واشنطن في إدلب وإن كان مخفياً. مع ذلك يبدو أن أنقرة قد فشلت حتى الآن في إقناع (هيئة تحرير الشام) بالتعاون الكامل معها، كما فشلت في وقف الاحتجاجات والاعتصامات المستمرة التي يقوم بها السكان المدنيون من مدن وبلدات إدلب الرافضة للاتفاقات والتفاهمات الروسية التركية. وهذه التفاهمات هي محل شك في جدوى قدرتها على الضبط الدائم للأمن في المنطقة، وكان قد وقِّع تفاهم بين أنقرة وموسكو في 5 آذار الماضي ينص في أحد بنوده على ضمان إزالة العوائق وفتح طريق حلب – اللاذقية. ويقع على عاتق أنقرة بموجب التفاهمات فتح طريق حلب اللاذقية وإعادة الحركة التجارية عليه، وإبعاد عناصر (الهيئة) خارج الممر الأمني المُحدد بستة كيلومترات على جانبي الطريق، وتمييز عناصرها ومواقعها وفصلها عن فصائل المعارضة السورية الأخرى الموصوفة بأنها (معتدلة)، وهو ما لم يتحقق حتى الآن. ولهذا تفسير، إذ إن من شأن فتح تلك الطريق أن يؤدي إلى تحجيم المساحة التي تسيطر عليها (الهيئة) وتقطّع أوصالها. كما أن الكرملين على دراية كاملة بالخداع التركي، ونقلت وكالة أنباء (نوفوستي) الرسمية عن السفير الروسي في سورية أن موسكو تتوقع (أن يواصل الشركاء الأتراك جهودهم لفصل المعارضة المعتدلة عن الإرهابيين… وأن إعادة تسميتهم بتسميات أخرى لا يعني تغييراً في طبيعتهم الإرهابية).

حتى الآن لم تجد أنقرة مخرجاً في حل قضية إعادة ترتيب القوى العسكرية للمعارضة المسلحة في إدلب، لكن ذكرت مصادر من داخل هذه الفصائل أن الجيش التركي يقوم حالياً بسحب عناصر مسلحة موثوقة منها، ودمجها مع الجنود الأتراك داخل نقاط المراقبة التركية الموجودة في المنطقة. لتقوم في مرحلة لاحقة بإعادة هيكلة هذه العناصر ودمجهم ضمن تشكيل عسكري جديد يكون أقرب إلى جيش نظامي يتبع للجيش التركي.

إن تعزيز أنقرة لمواقع انتشار قواتها الغازية، وسعيها إلى إعادة هيكلة الجسم العسكري للفصائل الاسلامية المعارضة، يُنذر أن محافظة إدلب تقف الآن على صفيح ساخن، وأن تركيا مستمرة في أطماعها في الشمال السوري، ولا يمكن أن يؤتمن جانبها بأي اتفاق، وطالما نقضت التفاهمات والاتفاقات المتعلقة بسورية، سواء مع روسيا أو إيران أو حتى الاتحاد الأوربي. وحتى نقضها تفاهمات 5 آذار الماضي مع موسكو، سيبقى مستقبل محافظة إدلب مجهولاً لحين بلورة تفاهم دولي إقليمي جديد، يضع حداً للعدوان التركي، وهذا الحد مهما طال لن يوضع إلا إذا وصل السوريون على مختلف أطيافهم إلى عقد اجتماعي وسياسي جديد للبلاد.

العدد 1104 - 24/4/2024