استغلال سياسي لاإنساني لجائحة كورونا

بولس سركو:

حتى الكوارث العالمية الكبرى، التي تحتاج إلى أقصى درجات التعاون الدولي، لا تسلم من الاستغلال السياسي اللاإنساني كما هو حاصل بالنسبة لجائحة كورونا اليوم. وكلمة جائحة أطلقتها منظمة الصحة العالمية للإشارة إلى ما يفوق كلمة الوباء شدةً واتساعاً، ومع ذلك ومع كل الهلع والرعب الذي أصاب شعوب الكوكب وما يزيد عن 114 ألف وفاة وأكثر من مليون إصابة حول العالم حتى تاريخ 13/4/2020 وبدلاً من صب كل الجهود لوقف هذه الكارثة، تنشغل آلة الدعاية الأمريكية ومن في حكمها انشغالاً كاملاً في تجيير الحدث وفق مصالحها السياسية ضد الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية ، لدرجة أن الكاتب والباحث الفرنسي (هوغو ميرسييه) تساءل في صحيفة الغارديان: (هل تعني كل الأخبار المزيفة أن الناس ساذجون بشكل ميئوس منه، وقلقهم يجعلهم يتقبلون الهراء السافر؟).

أقول: لا، لأن مهندسي الدعاية واثقين بأن أكثر الناس ذكاء قد تنشلّ قدرته على التحليل ويعجز عن فك طلاسم التضارب الصارخ لكمٍّ هائلٍ من المعلومات المتناقضة كلّ التناقض. فحتى اليوم لم يتيحوا إجابات مؤكدة عن الأسئلة المفتاحية المؤدية إلى الحقيقة، ولا يستطيع أحد أن يكتشف من بين آلاف المقالات ما إن كان الفيروس مُصنّعاً مخبرياً أم متطوراً طبيعياً. فلدى أصحاب كلا الفرضيتين الأدلة والوثائق، بعضهم أظهروا صورة عن براءة اختراع زعموا أنها مسجلة في الوكالة الأوربية لبراءات الاختراع تكشف أن فيروس كورونا مصنّع مخبرياً وليس وليد الطبيعة، والبعض الآخر أقروا بأن العلماء الصينيين تتبعوا منذ بدء انتشار الوباء تسلسل جينوم الفيروس وأتاحوا البيانات للباحثين في جميع أنحاء العالم، مما يعني أن الفيروس مستجد عن فيروس سابق، وهو الأقرب إلى التصديق لأنه لو كان الفيروس مصنّعاً مخبرياً لكانت وسائل الوقاية منه والقضاء عليه  جاهزة على الأقل عند صُنّاعه، منذ البداية، ولما انتشر على نطاق واسع ولا كلّف هذا العدد من الضحايا والخسائر الاقتصادية، ولكن ليس من مصلحة مهندسي الدعاية التركيز على هذه البديهية، فالحفاظ على حيوية الاستغلال السياسي للحالة يقتضي حصر تفكير المتلقي بالشكوك ما إذا كان الفيروس قد تسرب بالخطأ إلى خارج المختبر أو أنه سُرِّبَ بفعل فاعل؟ إذاً من هو الفاعل وماهي أهدافه؟ وفي كل الحالات تضع الدعاية الصين في قفص الاتهام. فالأجوبة مصممة مسبقاً لتحميلها المسؤولية كاملة، فإذا كان الفيروس وليد الطبيعة فالدعاية جعلت الناس يشتمون الصينيين لأنهم يأكلون الخفافيش التي تنقل الفيروس إلى البشر، وإذا كان قد تسرب بالخطأ فالدعاية جعلت الناس يشتمون الصين على عدم كفاية منظومة الأمان الخاصة بمعهد ووهان لعلم الفيروسات، وإذا كان قد سرّبه أحد ما فالدعاية جعلت الناس ينظرون الى الصين كشريك في جريمة إبادة كبار السن التي ستوفر لخزينتها وخزينة الولايات المتحدة الأمريكية مليارات الدولارات دون الأخذ بعين الاعتبار أن الرأسمالية وحدها من لا يعبأ بحياة ملايين البشر، ووحدها من يختزن هذا النمط من التفكير الإجرامي الوحشي، ووحدها من يمتلك الوقاحة لاتهام الخصوم بالشناعات التي خططت لارتكابها، ومنها الحرب الدعائية والاستغلال السياسي لجائحة كورونا على طريقة المثل (ضربني وبكى وسبقني واشتكى).

لنقرأ بعض نماذج هذه الوقاحة، فعلى موقع العربي الجديد مثلا عنوان (فيروس كورونا يزعزع آلة الدعاية الصينية) وفي الديلي تلغراف عنوان (الصين لا يمكنها الهرب من مسؤوليتها عن وباء كورونا). وعلى موقع دي دبليو (هل تكذب الصين على العالم؟). أمّا على موقع أور نيوز (هل تخفي الدعاية الكورية الشمالية هول كارثة انتشار محتمل لفيروس كورونا؟) أما فضائية الحرة فوصلت بها الفظاظة أن تسأل: كيف تقود روسيا والصين معركة تقويض الولايات المتحدة؟ وتحذو الفضائيات التابعة حذوها في مبالغات هزلية كأن تنشر قناة الجزيرة عنوان (السعودية اعتبرت إيران مسؤولة عن زيادة تفشي الفيروس عالمياً)! ويتلقف الإشارة أتباع أتباعها في لبنان، فيعلن الكاتب والمحلل السياسي لقمان سليم أن (تسييس كورونا دفاعاً عن صورة إيران هو ذنب إضافي يسجله حزب الله على نفسه). وتحدثت الجزيرة تحت عنوان: فيروس كورونا سلاح مستجد للفوز بمعارك سياسية في 4/3/2020 عن صراع روسي أمريكي، إذ قال الأمريكيون إن حسابات مرتبطة بروسيا على مواقع التواصل اختلقت مزاعم لا أساس لها بأن واشنطن نشرت الفيروس وهو ما عادت فنفته المتحدثة باسم الخارجية الروسية بقولها (هذه قصة كاذبة ومتعمدة).

سمير حسن أحد مراسلي قناة الجزيرة وصلت به حمى التضليل أن يكتب على موقع (عربي 21) (تحارب الصين العالم كله بسلاح دافعت به عن نفسها من اتهامها بالمسؤولية، واتجهت لتطبيق سياسة الاستبداد المعهودة عند الحزب الشيوعي بغلق الناس في بيوتهم). ثم يعود للتأكيد بعد حين بركاكة (لطالما أتقن الشيوعيون الدعاية منذ لينين وماركس). وينتهي بالسخرية من المساعدات التي قدمتها الصين للعالم قائلاً بأن مصدرها (الحكومة وهواوي والملياردير جاك ما، وهم أصلاً يمثلون كياناً واحداً هو الحزب الشيوعي الصيني).

لا نعرف على وجه التحديد كم قبض إعلامي الجزيرة على ربطه التافه لفيروس كورونا بالشيوعية، ولكنه من المؤكد أن مثل هذا المستوى من السوقية المفضوحة يستحيل مروره بلا ثمن شأنه شأن ما زعمته صحيفة (واشنطن تايمز) في مقال بعنوان (هل فيروس كورونا سلاح حيوي مُصنّع؟) اقتبست فيه عن ضابط المخابرات الإسرائيلي السابق (داني شوهام) المشهود له بالعديد من السوابق في نشر الشائعات (من المحتمل أن بعض المختبرات في المعهد (الصيني) كانت تعمل على الأسلحة البيولوجية الصينية) دون تقديم أيّة أدلة تدعم هذا الادعاء الذي يشير إلى أن تفشي الوباء نشأ عن سلاح بيولوجي، ورغم الافتقار للمصداقية انتشر الخبر بسرعة تفوق سرعة انتشار الفيروس نفسه، فالرواية المختلقة ذاتها تكررت في محطة إذاعة أمريكية مع بعض التضخيم: (خبراء المخابرات يعتقدون أن قسم الأسلحة البيولوجية للجيش الصيني قد يكون مسؤولاً). بينما طرحت صحيفة (تورينتو صن) الرواية على هيئة سؤال: لماذا لا تتحدث وسائل الإعلام الرئيسية عن أصل هذا الفيروس القاتل؟ هل يمكن ربطه ببرنامج الحرب البيولوجية في الصين؟

حتى الرئيس الأمريكي ترامب نفسه كرّر في ظرف ساعة ثلاث مرات مصطلح الفيروس الصيني، وانكبّ هو وإمبراطوريته الإعلامية والأمنية وأتباعها على نشر الأكاذيب وتوزيع الاتهامات، ورفض فك الحصار عن إيران وسورية، والامتناع عن تقديم المساعدات حتى حين كانت حليفته إيطاليا تستغيث رسمياً وتنأى بنفسها كل شريكاتها الأطلسيات.

الشيوعيون هم من تجاوبوا، فالصين أرسلت أطباء وأجهزة طبية وأدوية ليس لإيطاليا فقط بل لحوالي 83 دولة في العالم وقدمت الخبرات وكواشف الاختبار والكمامات و20 مليون دولار لمنظمة الصحة العالمية كتبرعات لمكافحة انتشار الفيروس. أما كوبا الشيوعية ومع استمرار العقوبات الأمريكية عليها فقد قدمت المئات من الأطباء ليس لإيطاليا وحدها بل إلى عموم دول الاتحاد الأوربي ودول أمريكا اللاتينية وإفريقيا فضلاً عن 28729 طبيب كوبي موجودون أصلاً في 59 دولة في العالم لتقديم المساعدات المجانية، في النهاية هذه أخلاق الشيوعيين وتلك أخلاق الرأسماليين مهما حاولت وسائل دعايتهم تشويه صورة الشيوعية، فالناس ليسوا سُذّجاً.

العدد 1104 - 24/4/2024