(مفارقات) فهد الخليوي.. قصص مدهشة بطعم الأحلام المؤجلة

أحمد عساف:

في نظريات الأدب الحديثة وسيميائيات النص الإبداعي وجماليات التلقي، ثمة أهمية كبيرة لعنوان النص الأدبي من حيث أنه مفتاح الولوج لعمق النص الإبداعي، ومن حيث أنه دال أو لنقل العتبة الدالة لبنية القصة. في عنوان (مفارقات ) فخ لطيف ومهذب اشتغل عليه فهد الخليوي في بحثه الجاد عن قارئ ذكي يكون شريكه في نصه الأدبي أو لنقل في منتجه الفني، هنا ربما تكون الحالة فيها الكثير من متعة الاكتشاف، ليست من حيث وضع العنوان فوق النص، بل لما يحمله العنوان من دلالات كبيرة.

في المجموعة القصصية الموسومة بـ(مفارقات) للقاص فهد الخليوي، نحن أمام عنوان مختلف إذ لايقدم مفتاح بوحه لقارئه هكذا بسهولة، هوعنوان مشغول بكثير من العناية وبكثير من الشغف، وأزعم انه منسوج من عباءة التعب ومغزول بذكاء شديد الحساسية.

مفارقات عنوان شدني وأثار فضولي وغبطت الخليوي الذي لم التقيه ولا أعرفه شخصيا، فقط شدني نصه القصصي، وهنا تذكرت بعض مما يقوله الناقد الحداثوي العالمي(رولان بارت ) الذي طالب وفي إحدى نظرياته بموت المؤلف، (ويقصد بذلك انه علينا كقراء ونقاد أن نتعامل مع نص المبدع بعيدا عن جنسيته، وحياته الشخصية. وخصوصياته كإنسان. مايهمنا فقط نصه) أنا ومع فائق احترامي لأي مبدع أتعامل مع منجزه الأدبي والإبداعي وليس مع شخصه وهذه حالتي مع الأديب فهد الخليوي.

قرأت قصصه بكثير من الشغف ولفتني جدا وأعجبت بقصصه كثيرا، وأعدت قراءتها بكثير من المتعة، ولا أبالغ حين أقول انها دوختني، وانتابني إحساس غامر بأن القصة القصيرة والقصيرة جدا في الوطن العربي لن تموت، ولن يندثر هذا الجنس الأدبي الجميل والصعب.

في مفارقات فهد الخليوي نحن أمام قصص قصيرة جدا سنقرئها بكثير من الشغف، قصص على غاية كبيرة من الأهمية لما فيها من اشتغالات وسرد قصصي مكثف ممتع وجذاب.

من خلال قراءتي للمجموعة اكتشفت أننا أمام قاص لديه أدواته القصصية من تكتيك وتكنيك وسرد وتكثيف حاد وجاد لمجاديف سرده منعا من الترهل، يضاف لذلك تلك اللغة الجزلة والشفافة والشاعرية.

في قصة أحفاد يقول الكاتب:(حلقوا كالطيور الرشيقة فوق رأس”جدهم” هبطوا وقبلوا جبينه ثم طاروا!

شعر الجد بألم الوحدة، استجمع قواه وطار معهم!)

هناك الكثير من الانزياحات اللغوية ممتزجة بالتكثيف المتقن والمدروس بعناية شديدة، أقل ما يقال عنها انها قصص تنتمي لتيار القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا الحديثة ومراعاة أديب مختلف عن مجايليه، وهي علامته الفارقة وبصمته القصصية الخاصة به.

قصص فهد الخليوي حكايات وأمكنة تعج بالذكريات والحنين وشخصيات تتماهى مع صيرورة الأحداث القصصية، ميزة لافتة عند الخليوي أن معظم شخصيات قصصه هم بلا أسماء كأنما حضورهم القصصي في النص هو بحد ذاته اسم وهي حالة متطورة وحداثوية.

القاص فهد الخليوي في قصصه القصيرة جدا قدم لنا تحفة فنية وقدم لنا قصصا على غاية من الأهمية أقل مايقال عنها انها قصص سنقرئها مرارا وستعلق بأذهاننا و في عمق ذاكرتنا.

القصة القصيرة جدا التي هي فن صعب جدا متقاطع مع قصيدة الومضة ومع (الهايكو) كتب الكثير في هذا الجنس الأدبي الصعب للغاية. لكنهم قلة قليلة بل قليلة جدا من استطاع أن ينجح ويتألق ويترك أثرا لاينسى فيها.

لا أبالغ اذا قلت أن فهد الخليوي هو واحد من قلة قليلة لن نسمح لذواتنا المرور عليها مرور الكرام، إذا فعلنا ذلك فنحن نمارس أقسى الخيانة بحق ذائقتنا وأرواحنا العطشى لهكذا إبداع متميز.

اذا نحن أمام تجربة مهمة في هذا الجنس الأدبي. نجح فيها أديبنا الخليوي . على مستوى الفرادة والخصوصية والبصمة أقصد بصمته الواضحة في مجموعته(مفارقات) التي صدرت حديثا عن النادي الثقافي الأدبي بجدة وهي المجموعة الثالثة بعد مجموعتيه (رياح وأجراس2008م) ومساء مختلف2011م) وهي قصص قصيرة في معظمها وقد حظيت تلك المجموعتين بقراءات ودراسات نقدية عديدة أهمها كتاب الناقدة الجزائرية الدكتورة شادية شقروش الذي خصصته لمجموعة (رياح وأجراس)لفهد الخليوي بعنوان (سلطة النص بين المبدع والمتلقي في القصة القصيرة السعودية) وصدر عن مدار الوطن للنشر 2011م.

أعود ل(مفارقات) فهد الخليوي حيث استطاع بمفارقاته أن يلتقطنا بكثير من المحبة ويتلو لنا على بحر أيامه قصص قصيرة جدا عالية المستوى الكثير منها سنحفظها مثلما نحفظ قصيدة شعر عذبة وهنا أيضا أود القول أن (مفارقات) على مستوى العنوان هو المتناغم والمتناسب طردا مع هارموني أشكال هذه ال ق. ق. ج. الرائعة.

في قصة(بحر وأنثى) يقول: اقتربت المرأة نحو الشاطئ، حدقت عبر الفضاء الرحيب، لم يكن بينها وبين البحر حجاب، تركت أسمالها الرثة قرب الشاطئ المقفر، توغلت عميقا نحو البحر وهوت كنجمة مضيئة).

خاتمة مدهشة لقصة لها مداليلها ورمزيتها وأبعادها السيكولوجية. هنا وفي مايلي ذلك من قصص قصيرة جدا. نحن أمام قاص محترف، متوغل في الذات الإنسانية.

في قصة (ظلام) القصة تعلن عن ذاتها (تعثرت بعباءتها وهي تعبر للجهة المقابلة، كادت عربة مسرعة أن تحيلها إلى أشلاء، أزاحت الغلالة السوداء عن عينيها، أبصرت المصابيح المعلقة تتلألأ في أسقف المتاجر، وضعت يدها على قلبها وهي تلعن الظلام) نحن أمام حالة إنسانية لها بعدها ومقولتها والحديث الزائد عنها سيفقدها جماليتها، لست أدري لماذا يذكرني هذا بالذات مقولة لجدنا (النفري): (كل ما أظهر إبرة، وكل ما أستر خيط).

قصص الخليوي هنا هي تقدم ذاتها بذاتها الاقتراب من تفسيرها يفقدها نكهتها المتميزة ويخدش مشاعر أبطالها، أرجوكم دعوهم هم وأحلامهم وكوابيسهم، دعوهم يرقدون بسلام وطمأنينة، اتركوا لهم أحلامهم وطموحاتهم أقرءوهم عن بعد واحلموا معهم.

في قصة ذكرى يقول فهد الخليوي: (انهمك في إزالة الغبارعن بندقيته (ستينية) الصنع، دارت في شريط ذاكرته ملامح لرجال قتلوا في معارك طاحنة وبنادقهم الجديدة مبعثرة قرب جثثهم. أحصى كمية الطلقات النارية التي استلمها من أمين مستودع الذخيرة، ثمانون رصاصة كانت في عهدته نفدت كلها في الهواء الطلق).

وفي قصة بعنوان(مهزلة) يقول:(بلغ الجنين شهره التاسع وهو في قمة الحياة، وفور ولادته خرج ميتا!

حمل الأب طفله الميت إلى مخفر الحي لمساعدته في القبض على القاتل! قال له الضابط :- إنها إرادة الله!

خرج الأب من المخفر إلي المقبرة بعد تدوين الجريمة ضد مجهول!) نص تراجيدي ذو بعد فلسفي يحمل سؤالا صعبا يبحث منذ الأزل عن اجابة مفقودة.

سأعود لجدنا (النفري) الذي ذكرني به أديبنا الخليوي. يقول (النفري): (كلما ضاقت العبارة، اتسعت الرؤيا)، سأقول في الختام كم سررت بمفارقات الأديب فهد الخليوي، الذي قرأته بكثير من الشغف، وأسعدتني تجربته القصصية المتميزة.

العدد 1104 - 24/4/2024