الأحلام المحـلّقة

شروق ديب ضاهر:

خَفَقَت بجناحيها قبل أن تحطَّ في عشّها الغافي على أغصان السنديانة المنتصبة فوق الرابية، مدّت منقارها وأخذت تطعم صغارها الثلاثة الذين اشرأبّوا بأعناقهم متلهّفين للحصول على ما جلبته أمّهم إليهم من غذاءٍ بعد رحلتها الطويلة، ثلاثة عصافير ما زال الزغب غير قادر على كسوة جلودهم الرقيقة، قبعوا في عشهم يقتاتون على ما تجود به حوصلة أمهم، ويستمعون إلى حكاياتها ونصائحها وينتظرون اليوم الذي يغطي فيه الريش قوادم أجنحتهم، كي يركبوا عباب الرياح ويحلّقوا في مجاهل الفضاء.

سأل أصغرهم أمَّه عن قمة الجبل البعيد الشامخ، لماذا يختلف لونها عن ألوان الأرض الممتدة حولها؟ فأخبرته بأنها قمة عالية يكلّلها ثلج أبيض ناصع يتماهى في بياضه مع الغيوم التي تلامسها. شرد بحلمه بعيداً حيث الثلج: عندما أكبر ويشتد ريشي، سأحلّق هناك في ذروة العلاء، سأمرّغ جناحي بالثلج الأبيض وألتحف الغيوم، حضنته أمه تحت جناحها وهمست له: لأجلك خُلِقَت قمم الثلج المكلّلة بالغيوم ولأجلها خُلِقْت، ساعة التحليق تقترب يا ولدي ويقترب معها تحقيق حلمك الأبيض، تذكّرْ دائماً أن سهام الغدر تلاحق من رامَ عوالي القمم.

سألها أوسطهم عن عاشِقَين جلسا في ظل السنديانة وتحدثا طويلاً عن زقزقة العصافير وموسيقا تغريدهم، فأخبرته أن العاشِقِين هكذا حالهم دائماً، أكثر ما يجلب انتباههم ضوء القمر في المساء، يسكنون إليه وتغريد الطيور في الصباح يطربون له ويتمايلون على أنغامه. أغمض عينيه الصغيرتين مطلقاً لحلمه العنان: عندما أكبر ويشتد ريشي، سأملأ الآفاق بأجمل الألحان، سأجعل من تغريدي مَعْلَمَاً من معالم العشق للعاشقين. غمرته أمه بريشها وهمست له: لأجلك خُلق العشق ولأجله خُلِقت، ساعة التحليق تقترب يا ولدي ويقترب معها تغريدك الأجمل، تذكَّر دائماً أن التغريد مكانه جنبات الفضاء.

سألها أكبرهم كيف له أن يمتلك ناصية السعادة الدائمة في حياته وحياة أخويه الأصغرين؟ فأخبرته أن تحقيق السعادة منوط بقوة العزيمة وثبات الشكيمة والسعي المستمر. طفق يضرب بجناحيه العاريين مستحضراً حلمه: عندما أكبر ويشتد ريشي، سأحلق عالياً مظلِّلاً إخوتي، وسأبني لي ولهم أسعد الأعشاش. عانقته أمه بطوقها هامسةً: لأجلك خُلِقَت السعادة ومن أجلها خُلِقْت، ساعة التحليق تقترب يا ولدي وتقترب معها سعادتك المنشودة، تذكَّرْ دائماً أن سعادتكم الأكبر يجب أن تبنى هنا على أفنان هذه السنديانة العتيقة.

الزغب أضحى ريشاً قوياً وصار لاصطفاق أجنحتهم رنينٌ مميّز في خميلة السنديان، وقف ثلاثتهم على أحد الأغصان، بادرهم أخوهم الأكبر قائلاً: أمّنا لم تعد بيننا وساعة التحليق أذنت، سأحلق فوق السنديانة وأراقبكما، وسأبدأ ببناء أعشاش جديدة لنا ريثما تعودان، لا تنسيا كلمات أمّنا! انطلق العصفوران تلاحقهما عيون أخيهما.

ضرب بجناحيه راكباً صهوة الرياح، قمة الجبل البيضاء أضحت قريبة، استحوذ عليه حلمه ولم يلق بالاً إلى سهام الغدر التي نبّهته منها أمه، دوّى صوت انطلاق رصاصة الصياد، وهوى العصفور على سفح القمة الثلجية مضرجاً بدمائه، وأخذ ينتفض انتفاضة النزاع الأخير، مرّغ جناحه بالثلج وتنفس أنفاسه الأخيرة من رئة الغمام، وقبل أن يطبق جفنيه تساءل في سريرته المضرجة: لم تخبرني أمي أن الثلج لونه أحمر.

انطلق العصفور الثاني في الأجواء مغرداً بألحانه الشجية يريد أن يملأ العالم نغماً وعشقاً، استحوذ عليه حلمه واستمر في الطيران والتغريد حتى نال التعب منه، فحطّ على الأرض ناسياً كلمات أمه، أحس بيدٍ تطبق عليه وتكاد تقبض أنفاسه، وخلال لحظات وجد نفسه داخل قفص خشبي حمله أحدهم صائحاً: سأهديك إلى محبوبتي يا صاحب الصوت الذهبي!

اضطرب العصفور فوق السنديانة بعد أن رأى ما حلّ بأخويه، وحلّق نحو الغرب مبتعداً: آسفٌ يا أمي لقد تمزّقت أحلامنا وتمزّقت معها سعادتي، لن أبقى في هذه السنديانة العتيقة، لم يعد لي مكان فيها، صارت رائحتها تزكم منقاري. سأهاجر إلى خميلةٍ جديدة، هناك سأبني حياتي الجديدة وسعادتي الجديدة. هام في الأجواء فوق البحر، واستمر في الطيران حتى لاحت أمامه في الأفق خميلة تخطف خضرتها الأبصار، استجمع قواه وتابع الطيران حتى وصل إليها وغفا على أغصان سنديانةٍ تنتصب وسطها، هناك بدأ يعيش حياته الجديدة ويبني عشه الجديد، كل شيء حوله يوحي بالدّعة والهدوء والسلام، ومع مرور الأيام اعتاد على الحياة الجديدة، لكن شعوراً غريباً بالحاجة الى السكينة كان يعاند قناعته ورضاه، يقتحم صدره الصغير فيضطرب قلبه بين أضلاعه، عشه فاخر وجميل لكنه ليس دافئاً كعشه القديم، السنديانة ضخمة و باسقة لكن لا رائحة لها، الحنين إلى عبق السنديانة العتيقة أخذ يتملّك جوارحه وهَمْسُ أمه ما فتئ يلازم سريرته: (سعادتكم الأكبر يجب أن تبنى هنا على أغصان هذه السنديانة العتيقة). نعم، سعادتي الحقيقية هناك حيث أنتمي، لن أموت إلا في عشٍّ دافئٍ تحتضنه السنديانة العتيقة. سأعود وسأمرغ جناحي بثلج الجبل الشامخ، سأملأ الفضاء بتغريدي رغماً عن رصاص الصيادين وأقفاص العاشقين.

في يومٍ ربيعي دافئ، كان النسر المطوّق يضرب بجناحيه العملاقين أمواج الرياح محلقاً في طبقات الجو العليا، يراقب من علٍ أسراب الطيور القادمة إلى خميلته الفارهة، رصدت عيناه الحادتان عصفوراً يجدّف بجناحيه عكس اتجاه القادمين، تجاوز حدود الخميلة وعلا متجهاً نحو الشرق رامقاً النسر بنظرة كسر تحدّيها حدّة عينيه.

العدد 1105 - 01/5/2024