من القلب إلى القلب | حكاية المرأة الجميلة التي لم تتزوج بعد!

عمـاد نـداف:

هكذا، وبكل بساطة، تجرأتُ ودخلتُ إلى غرفتها الصغيرة المعزولة. كانت غرفة متطرفة تبعد عدة أمتار عن مجموعة بيوت طينية، هذه الغرفة عبارةٌ عن بيت صغير يتألف من غرفة مساحتها نحو أربعة أمتار مربعة، وفي داخلها حمّام صغير، والغريب أن الغرفة لا نافذة لها. ليس هناك سوى الباب الذي يطل على فضاء يتصل بمساحة ملحقة بأحد البيوت القريبة!

طرقتُ الباب بأصابعي، فإذا هو مفتوحٌ، ومن خلفه يعمُّ ظلامٌ يوحي بأن النورَ لا يدخل إلى هذه الغرفة إلا من الباب. ناديتُ بعبارة الاستئذان المعروفة:

– يا الله.. يا الله.. يا الله!

سمعتُ صوتاً واهناً يأتي من داخل الغرفة دون أن أرى صاحبته:

– مين؟!

اتسعتْ حدقتا عينيّ، وصار بالإمكان رؤية داخل الغرفة، وجدتُها تجلسُ متربعةً على قطعة لبّادٍ مستطيلةٍ، ومن تحت هذه القطعة حصيرةٌ من القش، وبعضُ صرر الألبسة التي تخصّها، وإلى جانبها جرّة ماء صغيرة من الفخار، وطاسة من الألمنيوم، وصحن طعام يحتوي على برغل مسلوق مع البطاطا، وإلى جانبه صحن أصغر مليء باللبن، وكان هناك رغيف خبز تنور بيدها.

راقبتُ وجهَهَا، فأي وجهٍ جميلٍ كان، رسمَ الزمنُ من خطوطه وتجاعيده عليه بنعومة، ومع ذلك لم يستطع كسر القالب الأصلي لجماله وتناسقه فيجعله بشعاً. رُسمت عيناها الجميلتان بعناية، ومن فوقهما حاجبان مزجّجان بشكل طبيعي، أما فمها فكان مشدوداً يرسم شفتين نضرتين رقيقتين. أحسستُ عندئذٍ وكأنها امرأة خرجت للتو من صالون التجميل!

رحّبتْ بي:

– أهلاً وسهلاً يا ابني! أنت (مين)؟!

أخبرتها من أنا، فجاء ردُّ فعلها بعد لحظات من الصمت، بسعادة بالغة:

– يعني أنت ابن عبد الجبار وسعدى؟!

هززتُ رأسي علامة إيجاب، وقلت مازحاً:

– نعم. أنا أبو عبد الجبار!

لم تستجبْ لمزاحي، بل أمسكتْ يدي بحنان، وهمستْ:

– أنت ابن الكريم الشهم وابن الحلوة التي يحترمها الناس.

قلت لها:

– أنتِ أحلى.

فابتسمت وهزّت رأسها وكأنها تتأسّف على حقيقة جمالها الأخاذ، ثم سألتني تستفسر بفضولٍ واضح:

– كيف حال عبد الجبار؟ إن شاء الله بخير؟!

كانت فاطمة، وهو اسمها، أجمل فتيات القرية، حلم كل شباب القرية بالزواج منها، فلم تقبل، ولذلك كان السؤال الذي أحملُه إليها فجّاً وجريئاً، وهي التي بلغتْ من العمر أكثر من ستين عاماً:

– لماذا لم تتزوجي حتى الآن يا جدتي؟!

غصّت، وكأن لقمة ناشفة علقت في حلقها، فمن أين جاء ابن عبد الجبار ليحرجها بالسؤال الذي تريد أن تنسى جوابه طيلة السنوات الأربعين التي مرّت!

قالت، وقد تألّق وجهها مثل النهار:

– الحياة قسمة ونصيب يا ولدي!

رددتُ عليها بقسوة، وكأني أحاسبها على الماضي:

– هذا الجواب يقوله الناس للهروب من الحقيقة!

لم تحتجّ، ولم تطردني، وكأنها رأتْ في كلامي شيئاً مهماً يختفي في داخلها، أو كأنها اكتشفتْ أنها كانت تهربُ من تلك الحقيقة زمناً طويلاً. راقبتُ وجهَهَا، ذهلتُ بجمالِ عينيها الأخّاذْ، عينان ترسمان لوناً جميلاً بين الأزرق والبنفسجي، وكان ثمة لمعة باقية، أو ربما نشأت هذه اللمعة نتيجة أسئلتي!

قلت لها، وكأني فاجأتها بما لم تكن تتوقعه أبداً:

– لماذا رفضتِ كل الشباب الذين تقدموا إليك؟!

سيطر عليها خوفٌ واضحٌ، وكأنها متهمة في هيئة تحقيق جنائي، فأعدتُ طرح السؤال بشكل آخر:

– هل كانوا بشعين؟!

ارتاحت. حركت رأسها يميناً ويساراً تنفي. ثم قالت:

– تقدم للزواج مني أجمل شباب القرية.

– ستون عاماً ولم تجدي من يناسبك زوجاً؟!

هزّت رأسها، وكأنها تعترف:

– هذا ما حصل!

أثارني اعترافها، وجعلني أشعر بأن هذه المرأة التي تركوها تعيش وحيدة في غرفة تشبه الزنزانة، تتصدق النسوة عليها بالطعام، ويتبرع بعضهن بغسل ثيابها، وتنظيف جسدها بين فترة وأخرى. ليست سوى عاشقة، فطرحتُ عليها سؤالي الأخير:

– هل كنت عاشقة؟!

وصاحت تريد أن لا يسمع أحد ما سؤالي:

– اصمت يا ابن عبد الجبار.. وأضافت بهلع:

– هل حكى لك عبد الجبار شيئاً؟!

العدد 1104 - 24/4/2024