المطلوب إصلاح الأجور وليس زيادتها فقط

د. سلمان صبيحة:

كثر الحديث هذه الأيام وبشكل لافت أكثر من أي وقت مضى، عن زيادة الرواتب والأجور، وكان قد سبقها موجة من الاجتماعات والمحاضرات والندوات واللقاءات والعديد من المقالات حول الإصلاح الإداري والتنمية الإدارية وتنمية الموارد البشرية، وفي الوقت نفسه كانت وزارة التنمية الإدارية تتخبط في أعمالها لا هي استطاعت أن تترجم المشروع الوطني الكبير للإصلاح الإداري على أرض الواقع، ولا استطاعت أن تخلق على الأقل بيئة حقيقية لتنمية الموارد البشرية، بل اقتصر دورها حتى الآن على إقامة دورات تلقينية للكوادر الإدارية الموجودة على رأس عملها، فكانت هذه الدورات أشبه بحفلات التعارف. بالتأكيد ما هكذا تكون الإدارة ولا بهذه الطريقة نصنع الكوادر الإدارية، ولا بهذه الطريقة يكون الإصلاح الإداري. فوزارة التنمية الإدارية التي تعمل منذ عام 2014 وحتى الآن لم نرَ منها إلا التنظير والبهرجة الإعلامية والعشوائية في العمل والارتجالية في اتخاذ القرارات، التي لم تنعكس لا على حياة المواطن ولا على عمل الموظف. المسألة بحاجة إلى تغير في العقلية والذهنية وتغير أسلوب العمل وانظمته وقوانينه، وتطبيق القانون وإعطاء القطاع العام وإدارته وللعاملين فيه المرونة اللازمة لتطويره وجعلهم شركاء حقيقيين في الربح والخسارة، بما يحقق زيادة في الإنتاج والإنتاجية، ويحقق قيمة مضافة تنعكس في تحسين أجورهم ورفع مستوى حياتهم المعيشية، لأنه من أهم بنود الإصلاح الإداري هو إصلاح الرواتب والأجور، الذي يعتبر أيضاً قضية وطنية بامتياز.

فالحرب التي عشناها منذ آذار عام 2011 أدت إلى خلق ظروف اقتصادية واجتماعية قاهرة، فقد دمِّر بشكل كلي جزء كبير من البنى التحتية الاقتصادية والإنتاجية، وتدهورت الحياة المعيشية للمواطنين، وارتفعت نسبة الفقر إلى أكثر من 85% من إجمالي عدد السكان.

لقد جاء في مؤشر قاسيون آنفاً أن حد الفقر الحاد المعتمد عالمياً هو 9,1 دولار يومياً للفرد الواحد، بينما حد الفقر الحاد للفرد السوري هو 6,3 دولارات يومياً أي حوالي 1900 ليرة سورية يومياً.

لكن الطريف في الموضوع هو تقرير الأمم المتحدة الذي صدر مؤخراً بخصوص معدل الدخل الفردي لعام 2018 فقد وضع سورية في أخر القائمة بين الدول الـ188 إذ بلغ دخل الفرد السوري السنوي 479 دولاراً، علماً أن دخل الفرد السوري السنوي وصل عام 2005 إلى 3300 دولار وارتفع عام 2010 إلى 5043 دولار، وبالتالي كان دخل الفرد السوري عام /2010/ في الشهر 25,420  دولاراً، أي ما يعادل حالياً دخله السنوي، لذلك سنعتبر أن متوسط الدخل أو راتب الفرد السوري لعام 2010 هو الهدف الذي سنسعى لتحقيقه بإصلاح الرواتب والأجور، آخذين بعين الاعتبار أنه حدثت خلال الفترة الماضية زيادات في الرواتب والأجور.

وإذا نظرنا بلمحة سريعة إلى أرقام الموازنة العامة لعام 2019 وهي 3882 مليار ليرة سورية والتي وصفت بأنها اكبر موازنة بتاريخ سورية بالليرات السورية، حيث تم اعتماد سعر الصرف ب435 ليرة سورية للدولار الواحد، فنجد أن الموازنة العامة لعام 2019هي 92,8 مليارات دولار وهي نصف موازنة عام 2010 التي بلغت 5,16 مليار دولار، وهذا يعطينا مؤشراً على حجم التضخم الذي وصلنا إليه، وبالتالي تأثيره الكبير على مستوى معيشة السوريين، فكل شيء تضاعف أكثر من عشر مرات إلا الرواتب والأجور والتعويضات بقيت على حالها بالشكل الاسمي وفاقدة لقيمتها بالشكل الفعلي، لذلك لا بد من إصلاح الرواتب والأجور لإعادتها إلى ما كانت عليه قبل الحرب.

صحيح أن الدولة من خلال الحكومات المتعاقبة حاولت أن تواكب ازدياد التضخم وزادت بهذا الشكل أو ذاك الرواتب كما بينا سابقاً، ولكن ما يزال الفرق شاسعاً بين الاحتياجات الضرورية الأزمة وما بين الدخل، يجب ويمكن تقليص الفجوة بين ما هو لازم للمعيشة وبين الراتب، وهذا يتطلب نمواً في الإنتاج وزيادة في التصدير والبحث عن مصادر أخرى لرفد الخزينة العامة للدولة، من أهمها العمل على منع التهرب الضريبي ومكافحة الفساد والحد من الهدر وتشجيع الاستثمار.

وبحسب تصريح السيد وزير المالية بتاريخ 19 آب 2018 بأن كتلة الرواتب والأجور تبلغ حوالي 900 مليار ليرة سورية أي ثلث الموازنة العامة للدولة، ويتراوح معدل الأجور والرواتب وسطياً بين 35-40 ألف ليرة سورية في القطاع الحكومي، وما بين 60-70 ألف ليرة سورية في القطاع الخاص. ولكي تتضح الصورة أكثر نبين خارطة الراتب المقطوع وهو راتب بدء التعيين بدون أي تعويضات، أما السقف فهو أعلى ما يصل إليه الراتب دون أية تعويضات.

إن زيادة الرواتب حتى ولو وصلت إلى 100% لن تعيد المستوى المعيشي للعامل الى ما كان عليه قبل الحرب، بل سوف تؤجل المشكلة قليلاً وتدفعها إلى الأمام لكي تتفاقم أكثر، ولن تحلها الحل الجذري الذي نطمح إليه.

الحل الجذري يبدأ بالاعتراف بالمشكلة، وبعدها نبدأ بإصلاح الرواتب والأجور، وذلك عن طريق اتخاذ الاجراءات الجريئة التالية: أ _ إجراءات طويلة المدى تتمثل بـ:

أولاً_ تشكيل لجنة طوارئ تمثل كل الأطياف السياسية والاقتصادية في البلاد من أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية ومن كل القوى الوطنية الخيرة المشهود لها بحرصها على الوطن والاقتصاد الوطني، لقيادة حوار اقتصادي شامل حول كيفية إصلاح الرواتب والأجور، تضع المقترحات والتوصيات وترفعها للقيادة من أجل البت فيها وذلك خلال فترة لا تتعدى الـ180 يوماً، ويمكن أن نطلق على هذا البرنامج الإصلاحي برنامج الـ 180 يوماً.

ثانياً_ العلاج بالصدمة وذلك عن طريق اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة والمناسبة لتغيير العملة خلال فترة زمنية محددة لا تتعدى الثلاثة أشهر، لأنه خلال فترة الحرب، وبحسب أقوال البعض، هناك مليارات الليرات السورية تم تهريبها خارج البلاد، وهناك مليارات أخرى مخبأة هنا وهناك، فعندما يتم تغيير العملة ستظهر هذه المليارات وتشكل إحدى روافد الموازنة.

ب _إجراءات قصيرة المدى وفورية لإصلاح الرواتب والأجور والتعويضات، بضرب الراتب والتعويضات بـ10 مباشرة، وطباعة الورقة النقدية ذات الفئة خمسة آلاف ليرة سورية، ووضعها بالتداول، مع الحفاظ على الأسعار ومنع الاحتكار وتثبيت سعر صرف للدولار الواحد بـ500 ليرة سورية، وذلك عن طريق التمويل بالعجز، والعمل بالتوازي على ما يلي:

1- تأمين البنى التحتية اللازمة لإعادة تشغيل العجلة الاقتصادية، وبالتالي زيادة الإنتاج بالاعتماد على الذات والموارد المحلية وبمساعدة الحلفاء والأصدقاء شركائنا بالنصر.

2- تشجيع التصدير وخاصة تصدير فائض الإنتاج وتقديم التسهيلات اللازمة في هذا المجال واتباع سياسة ترشيد الاستهلاك ومنع الهدر أو الحد منه مما سيوفر على خزينة الدولة المليارات بحسب رأي المختصين.

3-  مكافحة الفساد بكل أشكاله وألوانه وخاصة الكبير منه ومحاسبة الفاسدين والمفسدين ومصادرة أموالهم وأملاكهم. وهذا الإجراء كما يتوقع البعض سيرفع من ميزانية الدولة أضعافاً مضاعفة.

4-  إصدار قوانين وأنظمة جديدة تتعلق بإصلاح القطاع العام وإعطائه المرونة والصلاحية في العمل بتطبيق نظام (التمويل الذاتي) بحيث تكون الإدارة والعمال بمثابة شركاء حقيقين في العمل (هم أصحاب العمل) تنعكس الأرباح والخسائر عليهم، بعبارة أخرى تحدد الدولة لنفسها قيمة مالية سنوية معينة مفروضة من هذا العمل أو المنشأة والباقي يوزع على العاملين فيه كل بحسب جهده وعمله وذلك بعد حسم المصروفات والمستلزمات …الخ.

5-  تفعيل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل وخاصة صناديق دعم العاطلين عن العمل وأن تقدم لكل اسرة أو طالب عمل معونة اجتماعية شهرية تعينه على الحياة ريثما يتم تأمين عمل مناسب له سواء في القطاع العام أو الخاص أو المشترك.

6-  تسهيل وتبسيط الإجراءات على المستثمرين وإصدار قوانين استثمار جديدة واضحة فيها مرونة لاستقطاب الاستثمارات المحلية والعربية والأجنبية لتحريك عجلة الاقتصاد وخاصة في هذه المرحلة التي نخوض فيها حرباً اقتصادية كبيرة.

7-  تطبيق القوانين والانظمة وتفعيل مبدأ الثواب والعقاب… فمن المهم محاسبة المخطئين، ولكن من الأهم أيضاً مكافأة المبدعين والمثابرين والعاملين الشرفاء والنزيهين سواءً مادياً أو معنوياً ووضع الإنسان المناسب في المكان المناسب.

8- تقليص النفقات بإلغاء بعض الجهات أو الوزارات ودمجها مع بعض الجهات الأخرى، كإلغاء وزارة التنمية الإدارية وتحويل صلاحياتها إلى هيئة تخطيط الدولة، وإحداث وزارة جديدة مكانها للشهداء والجرحى.

9- اتباع سياسة دعم حكومي واضحة وسهلة، بحيث يصل الدعم إلى مستحقيه بكل سهولة ويسر، وتتخذ الإجراءات المناسبة لعدم تحويل هذا الدعم إلى منفذ كبير للفساد وللفاسدين.

العدد 1104 - 24/4/2024