المشغّل الرئيسي للاقتصاد الوطني

بشار المنيّر:

بعد دحر الإرهابيين، واستعادة الجيش السوري معظم الأرض السورية، وفي سياق السعي من أجل حل الأزمة السورية عبر الطرق السياسية، تنهض أمام بلادنا مهمة التحضير لإعادة إعمار ما خربته تداعيات الأزمة.. والغزو الإرهابي، هذه المهمة التي ينبغي حسب اعتقادنا أن تندمج مع استئناف عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، التي وعُد الشعب السوري بتحقيقها للمرة الأخيرة في الخطة الخمسية العاشرة، لكن هذا الوعد الذي سبقته وعود كثيرة قبل ذلك لم يتحقق، ودخلت سورية بعدها نفق الأزمة، والغزو الفاشي الذي تسبب بكوارث إنسانية، وأضرار جسيمة أصابت البشر والشجر والحجر. لن ندخل في تفاصيل عملية إعادة الإعمار، التي أفضل تسميتها (الإعمار من جديد)، فقد كتبنا الكثير حولها على صفحات (النور) وفي صحف أخرى، لكننا سنبين هنا أهمية تضافر جميع الجهود، واستخدام جميع الأدوات المتاحة، من أجل تحقيق هذه الغاية بالاعتماد على الذات، بعيداً عن سيناريوهات الصناديق والمؤسسات الدولية، وأهم هذه الأدوات حسب اعتقادنا هو الشراكة الحقيقية بين الحكومة والرساميل الوطنية، والقطاع الخاص المنتج، الذي تشكل الشركات الصغيرة والعائلية عماده الرئيسي.

تلعب الشركات العائلية والصغيرة في الدول الصناعية، دوراً نشيطاً في نموها الاقتصادي إلى جانب الشركات العملاقة التي لم تستطع تهميش دور هذه الشركات، وتبين أن الشركات العائلية والصغيرة قادرة على تلبية احتياجات الشركات الكبيرة، بل إيجاد الحلول لكثير من المشاكل التي كانت تعترضها، وهكذا نشأ نوع من التعايش والتعاون بينهما، ففي أوربا اليوم عددٌ هائل من هذه الشركات، تتوزع على مختلف الأنشطة الاقتصادية، الزراعية والصناعية والتجارية والخدمات، كذلك الأمر في الولايات المتحدة والدول الآسيوية، وتمثل أسهم الشركات الصغيرة اليوم 35%من بورصة نيويورك. وفي الولايات المتحدة تساهم هذه الشركات بنسبة 50% من الناتج القومي، وتوظف أكثر من 50% من القوى العاملة الأمريكية، ويزيد رصيدها عن 80-85% من إجمالي المؤسسات والشركات الاقتصادية العالمية، وتكتسب خبرة ومهارة تتطوّر وتنمو من جيلٍ إلى آخر، وتمتلك  شبكة علاقات عامة تمتد لمختلف أنواع الأنشطة الاقتصادية، وبغض النظر عن الطابع الفردي والعائلي لهذه المؤسسات، فقد سارعت الدول المتطورة اقتصادياً إلى تحفيزها، وأقرت لها إعفاءاتٍ مالية  من الضرائب والرسوم شرط توفيرها فرص عملٍ تساهم في كبح البطالة لا سيما في أوساط الأجيال الشابة.

في سورية لا تختلف سمات هذه الشركات كثيراً عن البلدان الأخرى، فالشركات العائلية والصغيرة والمتوسطة تشكّل ما يقارب 85 % من عدد المؤسسات الاقتصادية، وتوفر ما بين 60- 80 % من فرص العمل، لكنها تفتقد  إلى كثير من الخبرات المتراكمة لا سيما بعد انتقالها للجيل الثاني أو الثالث، كما يلعب غياب السياسات الموجهة لدعم هذه الشركات وخاصة في مجال التحديث التكنولوجي والإقراض  المصرفي، دوراً كابحاً في تطويرها، بعكس الدول المتطورة اقتصادياً والتي تسعى لمساعدة هذه الشركات على البقاء والتطور ضمن النسيج الاقتصادي.

وتشكل الشركات العائلية والصغيرة والمتوسطة نسبة تعادل 64,22% من مجموع المؤسسات الصناعية في سورية، أما نسبة 9,76% فهي للشركات الصغيرة جداً، والباقي 4,0 % تعود للشركات الكبيرة، وتمثل الشركات العائلية والصغيرة نسبة 90 % من عمالة واستثمارات القطاع الخاص في سورية، وتختلف مساهماتها حسب القطاعات والنشاطات الاقتصادية، فهي تصل إلى 80 % في قطاعي التجارة والسياحة، و50 % في قطاعي الزراعة والبناء، و 30 % في قطاع الصناعة و 20 % في قطاع النقل والمواصلات (1).

ومنذ بداية القرن الجديد، صدرت مجموعة من القوانين المشجعة للتعددية الاقتصادية في البلاد، وأسست لتحفيز الشركات الصناعية والتجارية للمساهمة الفاعلة في الحياة الاقتصادية، كالقوانين المتعلقة بخفض العبء الضريبي، وتأسيس المصارف الخاصة وشركات التأمين، وتشجيع تأسيس الشركات المساهمة. إن هذه التشريعات فتحت المجال أمام الشركات العائلية والصغيرة لزيادة مساهمتها في مختلف قطاعات الاقتصاد الوطني.

لقد تسببت الأزمة بأضرار بالغة لقطاعات الإنتاج.. والرساميل والمصارف والاستثمارات والاستهلاك والادخار، أي بكلمة واحدة تراجعت جميع المؤشرات الاقتصادية، وهاجرت العديد من الشركات الصغيرة والعائلية إلى الخارج، خاصة في ظل الحصار الاقتصادي الجائر الذي فرضته الإمبريالية الأمريكية وحلفاؤها على سورية. أما في الشق الاجتماعي فكان أبرز التداعيات ارتفاع نسب الفقر والبطالة والهجرة الداخلية والخارجية، وما أدت إليه من معاناة شديدة مستمرة، أفقرت المواطنين السوريين.

نحن نرى بأن التنمية الاقتصادية والاجتماعية في عالم يرتهن فيه الاقتصاد الدولي والتجارة العالمية وأسواق المال، لمجموعة من الشركات العابرة للقارات، وسماسرة الأسهم وأوراق المال، تتطلب سياسة وطنية مستقلة، تعتمد خطة تنمية شاملة تقودها الدولة بالاعتماد على قطاعها الإنشائي والإنتاجي والخدمي، الذي أسهم في الماضي بدور رائد في الحياة الاقتصادية، والذي ينتظر اليوم إصدار التشريعات الهادفة إلى تطويره وتحديثه، وتخليصه من الأزمات التمويلية والإدارية التي يعاني منها، والفساد الذي ضرب بعض مفاصله الرئيسية، ويشارك في هذه الخطة بفاعلية القطاع الخاص المنتج، وخاصة تلك الشركات الصغيرة بعد تحديثها وتطوير مساهماتها. إن هذه السياسة المتسمة بالمشاركة والتعددية، قادرة على النمو بقدراتها الذاتية، والاعتماد في ذلك على الاستثمار الوطني والموارد الذاتية بشكل رئيسي، وحسب اعتقادنا فإن تهيئة أجواء الاستقرار والأمن والتشريعات المحفزة، ستشكل البيئة المناسبة لعودة هذه الشركات إلى الوطن، كذلك فإن جذب الأموال السورية المهاجرة سيُغنينا عن اللجوء إلى الاقتراض من الصناديق الدولية، إذا ما سُنّت التشريعات المحفزة على عودتها من الخارج، إذ تقدر حجم هذه الأموال الموظفة في الخارج حسب تقدير الأوساط المالية، بأكثر من 100 مليار دولار.

لذلك نعتقد أن جوهر مبدأ الشراكة مع الرساميل الوطنية المنتجة في الوقت الراهن عليه أن يتسع لمضامين أوسع، تأخذ بالحسبان لا المشاركة بين الدولة والقطاع الخاص، فقط، في هذا المصنع أو ذاك.. أو تطوير حقل نفطي أو غازي في هذه المحافظة أو تلك، بل يتسع ليشمل أيضاً شراكة حقيقية من أجل إعادة إنهاض الاقتصاد السوري وقطاعاته المنتجة، وخاصة الصناعة والزراعة وبنيتهما التحتية، وتطوير المرافق العامة، وإعادة إعمار ما خربته تداعيات الأزمة على الصعيد الوطني. أما الشرط الرئيسي لنجاح التشاركية في الظرف الراهن، فهو نجاح المساعي الدولية والداخلية لإنهاء الأزمة السورية عبر الحلول السياسية، فدون ذلك لن يوجد الاستقرار الذي يعد العامل الأساسي لنجاح السياسات الاقتصادية المستقبلية.

أخيراً، وفي ظل تأسيس الشركات القابضة من جديد في البلاد، تلك الشركات التي تأسس ما يماثلها في العقد الماضي، لكنها لم تفعل شيئاً. وخلال أزمة الوطن ومعاناة الشعب، أوقف بعضها أعماله، وبعضها الآخر نقل نشاطه إلى دول أخرى، وحصل تخوف لدى مالكي الشركات الصغيرة والعائلية، ولسببٍ أو لآخر يعتقدون بأن هذه الشركات القابضة الجديدة، لن  تترك لهم حصة في مجال الأعمال والاستثمار، خاصة في عملية (الإعمار من جديد)، وأن هذه الشركات العملاقة  بحكم تنوع نـشاطها الاستثماري وقدراتها المالية ستؤدي إلى (خراب بيوتهم)، لذلك من الضروري تدخل الدولة لحماية هذه الشركات الصغيرة من محاولات الهيمنة والابتلاع، وحصر نشاطات الشركات الكبيرة بالمشاريع  الأساسية ذات التكاليف الاستثمارية المرتفعة، وعدم منافسة الشركات الصغيرة على المشاريع التي تتناسب مع قدراتها.. وخبراتها.

(*) عضو جمعية العلوم الاقتصادية

 

(1) راجع النشرة الاقتصادية لغرفة تجارة دمشق، نيسان 2006.

العدد 1104 - 24/4/2024