العدالة… ذلك الفردوس البعيد

حسين خليفة:

فكرة العدالة الاجتماعية، أو لنقل حلم العدالة الاجتماعية بدأ مع أول مجتمع بشري ظهر على وجه الأرض، بدأ من دون مفاهيم فلسفية ولا تعاريف ولا مقدمات نظرية، بفطرة الإنسان التي تطمح إلى تحقيق أفضل شروط الحياة له، وبالصراع بين الإنسانية والأنانية، الإنسانية بما تعني من الإحساس بالآخر وبشراكته في الحياة والخيرات المادية، والأنانية بما تعنيه من حب احتكار هذه الخيرات أو الاستئثار بأكثرها وأفضلها.

ولنا في الأمثال والأحاديث المقدسة كثير مما يبرز هذه الثنائية وتغليب الإنساني على الشخصي، فالناس شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والهواء، ولا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وصرخة عمر بن الخطاب في وجه واليه على مصر: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً!) تختصر فلسفة العدالة وحقوق الإنسان من وجهة نظر ذلك  العصر.

العدالة الاجتماعية مفهوم واسع وشامل يجمع أكثر من رؤية ونظرية ودين، ويمكن اعتبار كل ما شهده تاريخ الإنسانية، من نظريات فلسفية وأديان وحركات اجتماعية، محاولات للإنسان في الوصول إلى فحوى العدالة ومحتواها الصحيح.

وفي كل مرحلة اجتماعية اقتصادية، أو كل تشكيلة، كان المفهوم يتطور، فكان عند الأنبياء والمصلحين يركز على العدالة القانونية بين الجميع، أي المساواة أمام القانون، وفي الماركسية، الفلسفة التي توجت عصر الأنوار، كان أساس العدالة هو المساواة الاقتصادية، أي توزيع الثروة على أفراد المجتمع بما يحقق تكافؤ الفرص والعدالة بجوانبها الأخرى، فمهما كان القانون عادلاً، والدستور مثالياً، والقاضي صالحاً، والانتخابات نزيهة، لن يستوي أمام هذا القانون فقير معدم مع ثري منعم، سواء في توفر وسائل إيصال الفكرة أو التعبير عنها أو الحجة الأقوى بحكم توفر فرص التعليم والثقافة عند الغني وانعدامها عند الفقير، لذلك جزم السيد المسيح: (أن يدخل الجمل في ثقب إبرة أسهل من أن يدخل غني ملكوت الله) معزّياً الفقراء المحرومين في الدنيا بملكوت الله في الآخرة، وكذا في الإسلام إذ وُعِد العباد الصالحون بجنات تجري من تحتها الأنهار، مما يعطي الأمل للفقراء في تعويض بعد الموت لفقرهم وشقائهم. لكن الفلاسفة الماديين أشاروا إلى إمكانية تحقيق جنة أرضية لا تمنع حلم المؤمنين بجنة سماوية، ورسموا الطريق لذلك بالاشتراكية والشيوعية كنظام يحقق أعلى مستوى من العدالة الاقتصادية والاجتماعية وتكافؤ الفرص، لأنه يحقق العدالة في توزيع الخيرات المادية بين الناس.

الآن، بعد أن تعثرت التجارب الاشتراكية في التطبيق، وتبين أن هناك خللاً واضحاً في البنيان الفكري والعملي للاشتراكية بحاجة إلى إعادة نظر في كثير من المقولات والمسلمات والمحفوظات، مع الحفاظ على الفكرة الأساسية، وهي عدالة توزيع الثروة، والانطلاق إلى دمقرطة الماركسية، كما يقال.

الآن تركز كثير من المنظمات الدولية وحتى الدول الرأسمالية الكبرى على مفهوم العدالة كبديل نظري عن فكرة الاشتراكية والمساواة في الثروة، لأن العدالة مفهوم عام لا خلاف عليه، وحمّال أوجه كما أسلفنا، من مفهوم سيادة القانون مثلاً، ومساعدة الفئات الأشد فقراً، ومكافحة الفساد، والتنمية المستدامة . .  .الخ من المفاهيم التي تكرس عدم العدالة في توزيع الثروة، ووأد الفكرة الاشتراكية تحت وابل من الكلام المعسول عن العدالة المطلقة غير المحددة بمفاهيم وإجراءات اجتماعية اقتصادية تأخذ من الأغنياء لتعطي الفقراء لا زكاة ولا صدقة ولا منة ولا تفضيلاً، بل حقاً من حقوقهم بصفتهم منتجين للخيرات المادية وبانين لسعادة الآخرين على حساب شقائهم وتعبهم، وإنما تكون من باب العطف والإنسانية من قبل العالم الغني للعالم الفقير الذي يجب أن يبقى فقيرا ليبقى ذاك غنياً، ومن الأفراد الأغنياء للأفراد الفقراء الذين ما أفقرهم سوى غنى هؤلاء (ما اغتنى غني إلا من فقر فقير) والحقيقة انه ما اغتنى غني إلا بفقر ألوف الفقراء بل ملايينهم في حالات الثراء الفاحش لكبار الأثرياء.

فتركيز الأمم المتحدة والمنظمات الدولية على المفاهيم العامة البعيدة عن ملامسة أساس مشكلة غياب العدالة ووجود الفقر والحرمان، مثل القضاء على الفقر، وتعزيز العمالة الكاملة والعمل اللائق، والمساواة بين الجنسين، وتحقيق الرفاه الاجتماعي، والعدالة الاجتماعية للجميع، هو كلام جميل، لكنه لن يمكِّن الفقراء يوماً في تحويلهم من أجراء لدى رأس المال إلى شركاء فيه، بل يبقيهم أجراء مع تحسين بعض شروط حياتهم كي يستطيعوا الاستمرار في تدوير عجلة الإنتاج الرأسمالي ومضاعفة ثروات الأسياد.

لكن، في واقع تسيّد الرأسمال وغياب البديل الاشتراكي الحقيقي، البديل الذي يفرض أفضليته اقتصادياً وإنسانياً من جهة احترام خصوصية الفرد وكرامته وعدم معاملته كآلة، في ظل هذا الواقع لا مفر لنا، كيساريين ومؤمنين بضرورة الاشتراكية بمضمونها الإنساني الديمقراطي البعيد عن الاستبداد، من التعامل مع هذه الأفكار في سبيل التخفيف عن فقراء هذا الكوكب، ومنحهم فرصاً للتعليم وتطوير ذواتهم ليكونوا مؤهلين لتغيير واقعهم بأيديهم في زمن قادم.

husenkhalife@hotmail.com

العدد 1105 - 01/5/2024