طور التلاشي وما بعده في الأزمة السورية!

نضال محمد:

يقدم لنا علم دراسة الأزمات إطاراً نظرياً جيداً لفهم الأزمة وتطورها زمانياً ومكانياً، والأزمة السورية ليست استثناءً؛ إلا أن المقام لا يتسع لتقديم دراسة شاملة لجميع المفاهيم النظرية ومصاديقها في الواقع السوري، لذلك سنسهب تحديداً في شرح مرحلة التلاشي وما يمكن أن يليها من تطورات، على أن نعود إلى هذه الجوانب المتروكة في مقالات لاحقة.

بالرغم من وجود عدة مقاربات وصيغ مختلفة لتصنيف مراحل الأزمة وأطوارها، إلا أن جميع هذه التصنيفات تُركِّز على خمسة أطوارٍ أساسية، يمكن إجمالها بما يلي:

آ-طور الكمون،

ب-طور الظهور،

ج-طور النضوج،

د-طور التلاشي والانحسار،

ج-ما بعد طور التلاشي.

تتميز الأزمة السورية عن غيرها من الأزمات التقليدية بعدم وضوح الماهية الحقيقية للمشاركين فيها، وخاصة العامل الخارجي؛ الذي تمثّل في بدايتها بمجموعات دعمٍ، إلا أنها تحولت لاحقاً إلى مشاركٍ رئيسي، مما جعل أسباب الأزمة وموضوعها وفضاءها في حالة تغير دائم. لذلك لا يمكن تقييم (الأسباب الحقيقية) لاندلاع الأزمة السورية، إلا في مرحلة النضوج وما تلاها. وفي هذه النقطة تحديداً، قد يتهمنا البعض بخرق (مبدأ السببية) وقراءة الأسباب انطلاقاً من النتائج وليس العكس! إلا أن هذا الادّعاء غير صحيح؛ إذ لا يمكن الربط بين ظهور الجماعات الإرهابية التكفيرية ومطالبة الشعب السوري بـ (الحرية والديمقراطية ومحاربة الفساد)، فانتفاء أي علاقة بينهما واضحٌ بيّنٌ، هذا من جانب؛ كما أن مصالح معظم الدول المؤثرة في السياسة الدولية تتركز في منطقة الشرق الأوسط، لذلك فإن عدم أخذ دورها بعين الاعتبار يجافي أصول البحث العلمي في الظواهر الاجتماعية، من جانب آخر. وفي الوقت نفسه، فإن الادّعاء بأن الأزمة السورية نجمت بسبب مؤامرة خارجية تم تدبيرها بهذه العناية الفائقة، يستلزم تقديم أدلةٍ دامغة عليه، على الرغم من أن التآمر على سورية والدول العربية لم يتوقف منذ أكثر من قرنٍ من الزمن. وإن كان لابد من توصيف المسألة بـ (المؤامرة)، فالمؤامرة هي مخطط يمكن رسم خطوطه العامة وتعديلها في أي وقت، وهذا ما حصل بعد اندلاع ما يسمى بـ (الربيع العربي) في تونس ومصر.

يتميز طور النضوج، في الأزمات التقليدية، بحصول حالة من التوازن بين القوى المشاركة في الصراع، بحيث يصبح الفعل ورد الفعل غير قادرين على إنتاج حالة من التوافق بين الأطراف، وفي هذه الحالة يصبح تدخل قوة خارجية أمراً ضرورياً لحرف هذا التوزان باتجاه معين للخروج من هذا الحلقة المفرغة؛ إذ إن هذا التدخل يساعد بعض الأطراف على إعادة حساباتها وتحديد مصالحها على أسس جديدة. إضافة إلى ذلك، في (مستنقع التوازن) هذا، تترسخ القناعة عند الأطراف المعنية بحل الأزمة، بضرورة البحث عن مخارج مجدية.

أما في الأزمة السورية، فلقد تحققت حالة التوازن الموصوفة أعلاه بين القوات الحكومية السورية، من جهة، وقوات المعارضة المسلحة والمجموعات الإرهابية التكفيرية (كالنصرة وداعش وغيرهما)، من جهة ثانية. وكما أشرنا سابقاً، أصبح الفضاء الجيوسياسي الحقيقي للأزمة السورية واضحاً بعد أن كان مخفياً أو ملتبساً، إذ تحولت من أزمة محلية إلى أزمة إقليمية، بل دولية؛ نظراً لانتشار الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، وهذه الجماعات غير معنية بحل الأزمة السورية على الإطلاق، ولا يمكن اعتبارها بأي شكل من الأشكال مشارك في الأزمة؛ بل لها وظيفة محددة، تتمثل بشكل أساسي بالمحافظة على حالة التوتر هذه. من هنا تنجلي صورة الدور الأمريكي خصوصاً والغرب عموماً، المتمثلة بضبط عمل الجماعات الإرهابية على إيقاع معين، بغية تمرير المخططات السياسية المختلفة للمنطقة.

بناءً على ما سبق، يمكننا أن نعتبر أن طور التلاشي بدأ فعلاً مع بداية الدخول العسكري الروسي المباشر على خط الأزمة السورية، ففي هذه المرحلة تم القضاء على أعدادٍ كبيرة من الإرهابيين المرتزقة، وكان تحرير مدينة حلب العلامة الأبرز من الناحية العسكرية، وبالتالي تم حرف التوازن لصالح الباحثين عن حلول حقيقية، تحفظ سيادة واستقلال الدولة السورية ووحدة أراضيها.

وعلى هذا الأساس، فإنه من المفيد أن نتوقف قليلاً عند بعض أهم الملامح السياسية في هذا الطور، وتحديداً: الدور التركي وتحولاته، سلسلة مؤتمرات آستانة، اقتراح مناطق خفض التصعيد، القضاء على داعش، الاتهامات الغربية للحكومة السورية باستخدام السلاح الكيميائي، تزايد الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية.

بدأ الموقف التركي بالتحول تدريجياً، بعد انكشاف المخططات الغربية الرامية إلى إقامة دولة كردية على أراضي سورية والعراق وإيران وتركيا. وكان لهذا التحول دور بارز في دفع العديد من الجماعات المسلحة باتجاه التفاوض والجلوس على طاولة المفاوضات في مؤتمرات آستانة.

لقد خلقت سلسلة مؤتمرات آستانة منصةً جيدةً للحوار، وتحول هذا المسار تدريجياً إلى المسار الأكثر نجاعةً في حل الأزمة السورية؛ حتى أن العديد من الدول أبدت رغبتها بحضور بعض جولاته كمراقبين، وهذا ما عكس تزايد الثقة بالمقاربة الروسية، وبالتالي انكفاء وتراجع الدور الأمريكي في المنطقة. وفي الحقيقة، تكرّست المخرجات التفاوضية لمؤتمر آستانة في المعادلة السياسية السورية، الأمر الذي دفع باتجاه بلورة حلٍ يحافظ على وحدة الأراضي السورية والسيادة والاستقلال، وهذا ما سعت إليه روسيا والدول الضامنة، بخلاف المسارات الأخرى، كجنيف والرياض والقاهرة، التي حاولت بعض الدول استثمارها للحصول على مكاسب سياسية عجزت عن تحقيقها عن طريق القوة العسكرية.

وفي هذا السياق، كان الاقتراح الروسي بإنشاء مناطق خفض التصعيد من أبرز مفرزات مؤتمر آستانة، فلقد وفرت هذه المناطق آليات ناجحة، ساهمت في ضبط الأعمال القتالية، وتوفير الشروط الموضوعية لإجراء المصالحات، وعودة التواصل الاجتماعي والجغرافي لهذه المناطق مع الوطن، وإخراج الجماعات المسلحة منها.

لعلّ القضاء على داعش من أبرز علامات هذا الطور، إلا أن هذا النصر الكبير لم يكن ليتحقق لولا تضافر جهود الأبطال في حلف الأصدقاء الحقيقيين، والذي ضمّ روسيا وإيران والعراق وسورية ولبنان وغيرهم، الأمر الذي أدى إلى رفع الرصيد السياسي لهذا الحلف عند شعوب المنطقة. فلقد بات واضحاً أن الضربات الجوية لحلف واشنطن لم تكن سوى مداعبة وملاطفة لداعش، والهدف الحقيقي هو إطالة عمرها لكي تقوم بمزيد من الاستنزاف لطاقات شعوب المنطقة.

لذلك أدرك الغرب، على ما يبدو، أنه سيخرج من الميدان السوري خالي الوفاض، لذلك حاولت الحكومات الغربية إحباط الجهود الروسية وتعطيل مسار الحل السياسي، وكان السلاح الكيميائي الشماعة التي علقت عليها آمالها؛ فلقد أكثروا من تكرار هذه المسرحية الممجوجة حتى أهجروا، وتحولت أروقة المنظمات الدولية إلى ميدانٍ لمهاتراتهم الرخيصة، حتى بات المواطن الأوربي والأمريكي نفسه لا يصدقهم. ولم يتوقفوا عند هذا الحد، بل اعتدوا على الأراضي السورية تحت هذه الذريعة أكثر من مرة.

وأمام هذا الفشل الاستراتيجي الغربي، أدرك الكيان الصهيوني أنه أصبح أمام واقع جيوسياسي جديد، فلم تعد الولايات المتحدة المتحكم الوحيد في قضايا منطقة الشرق الأوسط؛ بل أصبحت روسيا اللاعب الأهم فيها، لذلك لاحظنا نشاطاً سياسياً محموماً للمسؤولين الصهاينة باتجاه روسيا. إضافة إلى ذلك، تصاعدت الاعتداءات الصهيونية على الأراضي السورية، بذريعة محاربة الوجود الإيراني في سورية، وهذه الهستيريا الصهيوينة تعكس حالة القلق والرعب التي يعيشها هذا الكيان، فهم يدركون جيداً أن إنشاء مقاومة سورية على غرار حزب الله لا يتطلب وجوداً عسكرياً إيرانياً كثيفاً، بل تكفي لذلك الاستعانة ببعض الخبرات العسكرية لا أكثر.

في الحقيقة، ووفقاً لمعطيات علم الأزمات، فقد تتحول الأزمة نفسها إلى أزمة أو أزمات جديدة؛ لذلك ثمة من يزعم بأن الأزمة السورية لم تتلاشى، بل تحولت إلى أزمتين جديدتين، أزمة إدلب والأزمة الكردية. وبالرغم من رصانة هذا الطرح، إلا أنه يمكن الرد عليه بسهولة، فالأزمات الوليدة تختلف في بنيتها جذرياً عن الأزمة الأصلية. ففيما يتعلق بمحافظة إدلب، فسيتم التعامل معها كباقي المناطق السورية المحررة من الإرهاب، وهذا يعني أن تصميم الحلول يجب أن يكون على مستوى الخبراء وليس على مستوى السياسيين. أما في الأزمة الكردية، فلا بد من الانتباه إلى أن (بؤرة الصراع) ابتعدت عن (الفضاء الجغرافي السوري) وأصبح فضاؤها الجيوسياسي بين أربع دول: سورية والعراق وإيران وتركيا.

أخيراً، و تأسيساً على ما أوضحناه في الفقرة السابقة، فإنه يمكننا القول إن الأزمة السورية دخلت في ما بعد طور التلاشي، وهو في الواقع طور إعادة البناء النفسي والاجتماعي والسياسي؛ إذ لا بد من إعادة تقييم ذاتية، وتقليص حدة التوتر، واعتراف جميع الأطراف بضرورة التفاعل والتواصل البنّاء فيما بينها، والتخلص من المشاعر السلبية، وعودة الثقة بين أفراد الشعب السوري والمساهمة الفاعلة والمنتجة في بناء الوطن الذي مزقته الحرب.

العدد 1104 - 24/4/2024