قـوة الحـق لا تـكفي..  في هذا الزمن العسير، هل تكفي قوة الحق لتهزم حق القوة؟

حسين خليفة:

في هذا الزمن الذي تعود فيه الاحتلالات المباشرة بعد غيابها، وتزدهر أنظمة القمع والاستبداد التي تكبح تحرر المجتمعات من قيودها التي تحول دون توليها لقضاياها المصيرية واليومية، لتبقى خانعة مُستسلمة لقدرها الذي ترسمه القوى الكبرى وتنفذه أنظمة تابعة عميلة جبانة على الخارج ومستأسدة على الداخل.

في هذا الزمن الكالح، ما زال هناك شعب اقتُلع من جذوره بفعل الاحتلال الصهيوني للأرض، شعب لم تنفع معه كل إجراءات الضم والتهويد والترحيل وتخاذل العرب وانقلاب الأصدقاء، فبقي مُصرّاً على فلسطينه التي يحدها القلب من كل الجهات.

الشعب الفلسطيني في فلسطين المحتلة يعطي العالم دروساً في قوة الإرادة والشجاعة والصبر والصمود.

كأن قدر هذا الشعب أن يحمل عبء مقاومة قوة غاشمة لا تنحصر بالملايين المعدودة من الصهاينة الذين اغتصبوا أرض فلسطين فحسب، بل بعالم شاسع من الأوغاد، دولاً ومنظمات وهيئات لا تبيعه إلاّ وهماً على وهم، فيما تمدُّ الدولة الصهيونية بأسباب القوة والمنعة والتوسع، بل في محيط عربي خانع وخائن، حتى ينطبق عليهم قول أبي الطيب المتنبي لسيف الدولة:

وسوى الروح خلف ظهرك روم  فعلى أي جانبيك تميل

ومن الأوهام التي باعوها لهذا الشعب هو اليوم العالمي للتضامن معه.

من الذي يتضامن فعلاً لا قولاً مع شعب فلسطين؟

لنتصفح خارطة العالم ونرَ.

باستثناء دول صغيرة مغضوب عليها أساساً ومحاصرة مثل كوبا كاسترو، لا توجد دولة واحدة كانت صادقة وفاعلة في دعمها للفلسطينيين بجزء صغير ممّا تغدقه الولايات المتحدة وحدها على إسرائيل من دعم سياسي واقتصادي وعسكري وتكنولوجي، فضلاً عن الغرب وحتى كثير من دول العالم الثالث التي وجدت في التحالف مع الدولة الغاصبة فرصة لتحسين أوراقها مع الكبار الداعمين لإسرائيل.

هناك دول ومنظمات استفادت من القضية الفلسطينية كمادة للمتاجرة، وهي من مصلحتها أن تستمر بلا حل إلى أبد الدهر لتستمر تجارتها، وهي تعلن ليل نهار تبنيها الكامل لقضية الشعب والأرض والتحرير، لكنها جعجعة بلا طحين.

وإذا تركنا العامل الموضوعي الذي هو في غير صالح الحركة الوطنية الفلسطينية من حيث موازين القوى والتحالفات، فإن العامل الذاتي للحركة الوطنية الفلسطينية هو أيضاً يُعاني من ضعف وتراخٍ لافت بدأ مع انقسام منظمة التحرير إلى تيارين متحاربين أوائل ثمانينيات القرن الفائت، ثم ظهور ونمو الحركة الإسلامية بجناحيها حماس والجهاد الإسلامي وطرح نفسها وبرامجها كبديل للحركة الوطنية الفلسطينية، ولم يكن نموها وامتدادها بمنأى عن العامل الإسرائيلي الذي أراد ضرب الحركة الوطنية وتفتيتها بإخراج المارد الإسلامي من قمقمه، وهكذا يمكننا ببساطة مقارنة الانتفاضة الفلسطينية الاولى 1987 التي حققت إنجازات مهمة كان يمكن لها أن تُغيّر مجريات الصراع وتقلب موازين القوى فيما لو وجدت قيادة ثورية جذرية، مع الانتفاضة الثانية عام 2000 التي انتقلت إلى التسلّح والعمليات الانتحارية بسبب سيطرة التنظيمات الجهادية المتطرفة على الشارع الفلسطيني في غزة خصوصاً، الأمر الذي ألحق ضرراً جسيما بالقضية وشرعيتها وبعدها الإنساني والأخلاقي.

ووجدنا أن التنظيمات الجهادية كانت وما تزال تُشكّل كعب أخيل القضية الفلسطينية، وبسبب ممارساتها وتقسيمها للساحة الفلسطينية، وفرض رؤيتها المشوّهة للصراع على أنه صراع مسلمين ويهود، وهو تصور يخدم الاحتلال ومنطقه التوراتي، بسبب ذلك تراجعت القضية كثيراً، وتراجع الاهتمام العالمي، وكسبت إسرائيل نقاطاً إضافية في حربها على الحركة الوطنية الفلسطينية التي تبوأها تيار بيروقراطي يقف على رأسه الكومبرادور الفلسطيني الذي تَشكّل في ظلّ الاحتلال، وهو ما زاد الطين بلة.

إن تخصيص يوم عالمي للتضامن مع شعب فلسطين هو في جوهره أمر جيد وإيجابي، لكنه يحمل نقيضه أيضاً، إذ تتحوّل القضية التي تتعلق بسلب وطن وطرد شعب إلى تظاهرة عالمية يتمُّ فيها إقامة فعّاليات تضامنية ثم انتظار العام القادم ليعيدوا السيرة نفسها.

إن جوهر الجوهر في القضية الفلسطينية هو حق العودة، وهو ما تراجع عنه العرب وقطاع كبير من الحركة الوطنية، ممّا ترك الساحة للتنظيمات الجهادية لتحتكر نبض الشارع الفلسطيني وتستولي على حلمه الوطني لتضعه في خدمة إيديولوجيا متخلفة تسكن خارج التاريخ وتأخذ القضية إلى منزلقات خطيرة.

في هذا اليوم (29/11) يتجدد وعي الطليعة الواعية والثورية بضرورة أخذ زمام المبادرة في متابعة النضال التحرري بأشكاله كافة حتى دحر الاحتلال وعودة اللاجئين وإقامة الدولة الوطنية الفلسطينية، وهو ما تنصُّ عليه قرارات الأمم المتحدة التي يجري الالتفاف عليها بمشاريع قذرة ليس آخرها ما دعي بـ(صفقة القرن)، وهي في مجملها تهدف لإجهاض الكفاح الفلسطيني من أجل حق العودة وإقامة الدولة المستقلة.

كلُّ الأغصان تعصف بها الفصول، تُغيّر معالمها، ألوانها إلاّ ذلك الغصن الأخضر الذي حملته حمامة مرابطة على أسوار قضية القدس بقي أخضر منذ صغري وحتى الآن..

 لا أدري أيّ تعويذة جعلت ذلك الغصن يحافظ على ذاته، ومدّت تلك الحمامة المسكينة بصبرٍ تطاول لسنوات وسنوات.. والظاهر من قضيتنا أن صبرها أو وقفتها ستطول أكثر

ماهي المعطيات التي تجعلني أُبصر القضية في مكانها تراوح..؟

 لطالما كان المشهد ضمن الإطار ذاته لم يتغيّر إلاّ من أبيض وأسود إلى ملون.. من خبرٍ على موجات إذاعة دمشق إلى بثٍ مباشر على صفحات التواصل الاجتماعي..

“شهيد عدوان.. مقاومة.. إطارات محروقة وكيان غاشم”

حتى أن المفردات ذاتها لم يتغيّر سياق الخبر.. صدقاً فيما مضى كُنّا ننتظر نشرة الأخبار، يعمُّ الصمت، وحده صوت المذيع يرنُّ في أرجاء المنزل وربما في الحي، فلم تكن خيارات القنوات الفضائية مُتاحة لهذا الحدّ.. وحدها قنواتنا المحلية مصدرنا الموثوق.. الآن قد نُفضّل برنامجاً غنائي على نشرة الأخبار، وإن تكرّمنا نفتح القناة وعند أخبار فلسطين نغضُّ الطرف، فالخبر محفوظ عن ظهر قلب..!  

 

العدد 1105 - 01/5/2024