كي لا ننسى.. كوزما كسيري.. مناضل لم تَلوٍه المحن

يونس صالح:

كوزما كسيري، اسم لا تعرفه الأجيال الشابة الحالية من المناضلين الشباب، وبدا وكأنه اختفى في ضباب التاريخ الكثيف وطواه النسيان، إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة، لأن التاريخ ينصف دائماً، وإن كان يفعل ذلك متأخراً باستمرار.

فمن هو هذا الشخص الذي نتكلم عنه؟ من هو هذا المناضل الذي وهب زهرة شبابه، وجزءاً غير يسير من حياته، لخدمة قضية ناضلت البشرية من أجلها آلاف السنوات، قضية العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية؟

إنه ابن بلدة قطنا الرابضة في جبال حرمون السورية، أبصر النور عام ،1928 وسورية ترزح تحت ثقل الاحتلال الفرنسي، ونما وترعرع وهو يرى أينما حلّ الواقع الصعب الذي كان يعيشه الشعب. الإقطاع يسيطر على معظم الريف السوري، ويشكل السند الأساسي للمحتلين، والتخلف الاقتصادي، واقتصار التعليم على فئات قليلة من الناس، وتدنّي الواقع المعيشي للكثير من شرائح الشعب الاجتماعي. ومع ازدياد تعرفه على هذا الواقع، كانت تتراكم في عقله أسئلة كثيرة عن أسباب كل ذلك البؤس، وكانت تتضح أمامه تدريجياً السبل التي يجب اتباعها للخلاص.

في أوائل الخمسينيات يدخل الشاب كوزما إلى الجامعة السورية_ كلية الآداب_ قسم الاجتماعيات، في تلك الأثناء كانت الجامعة السورية مركزاً هاماً من مراكز النشاط السياسي، خرّجت الكثير من المناضلين من مختلف الأطياف السياسية، لعبوا فيما بعد أدواراً سياسية هامة في البلاد، وكان لابد للطالب كوزما أن يتأثر بهذه الأجواء ويدخل إلى خضمها العاصف.

في الجامعة كانت تعمل منظمة شيوعية نشطة، استطاعت رغم عددها غير الكبير أن تستقطب حولها أعداداً كبيرة في ذلك الوقت من الطلاب، وكان كوزما من بينهم، فقد انتسب إلى الحزب في النصف الأول من أعوام الخمسينيات، ومن ذلك الوقت ربط الشيوعي كوزما حياته بالنضال من أجل التحرر الاقتصادي والاجتماعي للبلاد، ومن أجل إنجاز الاستقلال الوطني إنجازاً كاملاً.

لعب في بلدته قطنا دوراً هاماً في جذب الكثير من الشباب، وكان مستعداً على الدوام لتنفيذ أية مهمة تخدم قضية شعبه الكادح.

يتخرج في الجامعة، ويعمل مدرساً لمادة الجغرافيا والتاريخ، ويقوم بدوره التنويري بين طلاب المدارس الثانوية في دمشق وريفها، وأحبه الطلاب، ولقد شكل بالنسبة للكثيرين منهم نموذجاً يحتذى. في تلك الأعوام كانت سورية تخوض نضالاً عنيداً ضد الأحلاف، وكان التقدميون والحزب الشيوعي في طليعتهم يخوضون نضالاً شاقاً للحفاظ على استقلال سورية منيعة وحصينة. وقد أفشلت كل المخططات الرامية إلى جرّها إلى المحاور الاستعمارية، وأفشل الشعب السوري أيضاً جميع الانقلابات التي جرت في البلاد من أجل جرها إلى هذه المشاريع. يخوض كوزما مع الحزب كل هذه النضالات بشجاعة ونكران ذات.

في عام 1958 تنعقد الوحدة بين سورية ومصر بصورة مرتجلة وبسرعة، ويتخذ الحزب موقفاً حذراً من الطريقة التي جرت بها، ودعا إلى إعادة النظر بأسسها، إلا أن هذا الموقف الهادف إلى حماية الوحدة من الانتكاسة، قوبل بهجوم واسع على الحزب الشيوعي، وبحملة اعتقالات واسعة شملت أعضاءه، وزج بالآلاف في السجون والمعتقلات، ثم تطورت هذه الحملة لتشمل بقية القوى التقدمية في البلاد.

يعتقل كوزما، ويزج في سجن المزة، ويلقى من التعذيب الشيء الكثير، ومع ذلك فقد رفض أن يتخلى عن كرامته الإنسانية، وعن أفكاره، وبقي ثابتاً باعتزاز إلى أن انهارت الوحدة نتيجة الأخطاء الخطيرة التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية آنذاك.

تعرفت على كوزما في سجن المزة، وكنت أتساءل دائماً أية قوى روحية تكمن في هذا الإنسان النحيل والمتواضع تجعله بهذه الصلابة؟ وألتقي به مرة ثانية في لبنان في أوائل الستينيات، نتيجة تعرض القوى الديمقراطية للاضطهاد مرة ثانية، ونعيش معاً: أنا وكوزما والرفيق الصديق العزيز نبيه جلاحج، في منزل صغير في بيروت، تقاسمنا فيه شظف العيش وألم الغربة والحرمان. بيد أن كوزما رغم أحزانه الكبيرة، كان يبثّ فينا الأمل باستمرار.

في تلك الفترة بدأت تجري في العالم تغيرات عاصفة، لم تستطع الحركة الشيوعية في سورية ملاقاتها، ونشبت أزمة فكرية وتنظيمية، لم يستطع الحزب الشيوعي معالجتها بصورة موضوعية لعوامل ذاتية، ولتأثيرات مجتمعية وغيرها، ما أدى إلى انقسامات في صفوفه. لم يستطع كوزما الذي صمد أمام جميع المحن القاسية التي عاشها الحزب أن يتحمل ما جرى في الحزب، فابتعد تنظيمياً، إلا أنه كان واثقاً أن القيم الوطنية وقيم العدالة الاجتماعية ستعود إلى الوهج من جديد، مستندة إلى التقاليد الكفاحية للحزب التي أصبحت إرثاً للشعب ولن تنسى.

العدد 1104 - 24/4/2024