الأديب شاهر عبيد شهيداً

سيف الدين القنطار:

 أقام فرع اتحاد الكتاب العرب في السويداء يوم الأربعاء 05/09/2018 أربعينية للشهيد الرفيق شاهر عبيد، وذلك تحت رعاية الدكتور نضال الصالح رئيس اتحاد الكتاب العرب وقد شارك في الحضور أعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد السادة الأرقم الزعبي، وعلي ذياب، ومحمد حديفي، وجمهور غفير من أبناء المحافظة. وقد ألقى الرفيق سيف الدين القنطار كلمة أبّن فيها الرفيق الشهيد شاهر عبيد قائلاً:

دخل إلى غرفة المدرسين في ثانوية شكيب أرسلان لأول مرة وجلس قربي، وحين نظرت إليه بعين متسائلة، قال: أنا شاهر عبيد مدرس اللغة الإنجليزية الجديد، تأملته ملياً ولفت انتباهي قوامه الرشيق الذي يميل للقصر، ووجهه الأنيس الجميل، وسرعان ما توطدت العلاقة بيننا، كنت أحرص على الجلوس قربه، وكان يبادلني الحرص ذاته، واكتشفت أنه متواضع إلى أبعد حدود التواضع، أليف إلى أقصى حدود الألفة، يتكلم بصوت هادئ يكاد لا يُسمع، ويتحدث بقليل من الكلام الذي لا ينطق فيه عن الهوى، بل يصدر عن عقل مستنير، ويعبر عن ثقافة رصينة وليدة الاجتهاد، وعن آراء علمية، وفكر تقدمي نقدي.

كانت ثانوية شكيب أرسلان في ثمانينيات القرن الماضي، قبلة الأنظار، يقارنها البعض بثانوية جودت الهاشمي في دمشق، أو ثانوية المأمون في حلب، ولذلك كان كل من يحرص على تعليم أبنائه، وحصولهم على معدلات عالية في الثانوية العامة، يبعث بأبنائه إلى ثانوية أرسلان.

لم يصدق شاهر عبيد أذنيه، وهو يسمع في غرفة المدرسين تلك النخبة من الأساتذة الذين، كما وصفهم، لا يخافون الله، ولا الحكومة، حين يدخلون في معترك سجالات حامية وحوارات صاخبة مخيفة لا تبقي، ولا تذر، ولا ترحم، تتطاير فيها أشلاء معظم الحكومات العربية، لأنها تعج بالتبجح، والفساد، والتمسك المقيت بكرسي الحكم.

قال مرة: (من يسمعكم يظن أن خصوماتكم السياسية ستباعد بينكم، ولكنه يعجب من تلك العلاقات الحميمة، وأواصر المودة التي تسود بينكم).

ومرت الأيام، وجرت مياه كثيرة تحت الجسر، وبدأ شاهر يشكو، كان يواجه مصاعب جادة في التدريس، أكد لي أن الطلاب لا يحبون تعلم اللغة الأجنبية، لا يقيمون لها وزناً كالرياضيات واللغة العربية مثلاً، يتعمدون الفوضى، يتهارشون أثناء الدرس، وألقى باللائمة على وزير التربية ساطع الحصري، الذي ألغى بعد الحصول على الاستقلال تعليم اللغة الأجنبية في المرحلة الابتدائية، قائلاً: قادنا حقدنا على الاستعمار إلى عدم التمييز بين السياسة والثقافة، فحرمنا طلابنا نعمة تعلم اللغات الأجنبية منذ الصغر. وأضاف: أظن أنني لم أخلق لمهنة المتاعب هذه.

وصمم شاهر على ترك التدريس.

ارتحل إلى الكويت. وهناك اتجه بصورة رئيسية صوب الترجمة، ووجد فيها ذاته، أصبح موظفاً في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويتي، تعزز دوره من خلال الدأب والمثابرة والسهر، وأتاح له عمله في المجلس الاستمرار في الترجمة على مدى ستة عشر عاماً، ترجم فيها عشرات المقالات، وعدداً من الكتب لعل أهمها كتاب بعنوان (فريدريك نيتشه مولد التراجيديا). وكان يرى في الترجمة فعلاً إبداعياً وثقافة رديفة، وحالة معرفية تعزز التواصل بين الثقافات والحضارات.

كان أبو حيان يعود إلى بلده من حين إلى آخر، وقد أصبح عضواً في اتحاد الكتاب العرب_ جمعية الترجمة، وألقى في هذه القاعة العديد من المحاضرات الأدبية.

وحين ألقى عصا الترحال، وأنهى عمله في الاغتراب، أقام في مدينة السويداء، وقد ابتاع بيتاً (على طريق قنوات)، ثم افتتح مكتبة صغيرة في حي المساكن الخضر الواقع جنوب طريق السويداء – الثعلة، وفي هذه المكتبة القريبة من بيتي كنت حين أذهب لشراء حاجيات البيت من سوق الحي، ألتقي بشاهر فأفرح، نتبادل أطراف الحديث، والشجون المشتركة، نستعيد الماضي الغابر، ونهجو الحاضر البائس. كان أبو حيان يضع على الطاولة أمامه دوماً رقعة شطرنج، وكنت أعرف أنه لاعب شطرنج ماهر، وأعلمني أنه اشترى في هذا الحي الشعبي شقة سكنية في الجوار، استجابة لرغبة زوجته التي تحب العيش قرب أهلها، وتخلى عن السكن في حي الأغنياء.

يوم الأربعاء الخامس والعشرين من تموز سمعت عند الفجر صوت الرصاص، وقرأت على صفحتي خبر التفجيرات الأربعة في مدينة السويداء، وهجوم الدواعش الغادر على سبع قرى، فتوجهت كعادتي إلى المساكن الخضر، ورأيت تجمعاً أمام أحد المحلات التجارية، كانوا يتهامسون وعلمت منهم أن أربعة من الدواعش كانوا في الحي، وقد اغتالوا المعلم الطيب المتقاعد هندي أبو سعيد، بينما كان في طريقه لشراء خبز أسرته.

أثناء العودة إلى البيت لاحظت أن مكتبة أبي حيان مغلقة، كان شاهر قد استيقظ باكراً، وجرياً على عادته، بدأ يمارس رياضته الصباحية، يدور عشر دورات حول حديقة المساكن، غير أن القتلة كانوا له بالمرصاد، لم يمهلوه ليكمل دوراته العشر، بل صوبوا رصاصهم الغادر إلى جبينه العالي، فأردوه قتيلاً، ورموا به قرب أشجار الياسمين في الحديقة، ومرت الساعات دهراً وعند الظهيرة انتشر خبر استشهاده.

شعار السلام سيبقى أعظم وأسمى شعار، فالحروب عدوة الحياة، ومشعلوها عبر التاريخ هم دواعش الجنس البشري، والأسلحة أسوأ ما صنعته يد الإنسان، ولا بد من أن يشرق فجر تُدمّر فيه مصانع السلاح كافة، وتوضع نماذج من منتجاتها في المتاحف كي تعرف الأجيال القادمة أية بربرية اقترفتها قوى الحرب والموت، وهي تحصد أرواح ملايين البشر. كثيراً ما يقال إن العالم تحول إلى قرية صغيرة، وكي يستقيم ذلك لا بد من إلغاء مجلس الأمن بقوامه الجائر، وتحويل هيئة الأمم المتحدة إلى حكومة حقيقية تتمثل فيها جميع الأمم على قدم المساواة، وتسهر هذه الحكومة على سلامة الحياة على كوكبنا الأرضي، وتوزيع خيرات الطبيعة وما كان ينفق في الحروب على سكان هذا الكوكب توزيعاً عادلاً، فينتهي الجوع، والفقر، والبؤس، والمرض من حياة الناس وينعم الجميع بحياة آمنة وعيش كريم.

صباح اليوم التالي في السادس والعشرين من تموز جرى تشييع سبعة شهداء في ساحة سمارة بالسويداء، وكان شاهر عبيد أحدهم، لم أذهب ولم أشارك، فقد كنت كسير الروح، مفعماً بالأسى والغضب، وكل ما فعلته أنني أشرعت نوافذ قلبي وخبأت فيه صورة الأديب الجار والصديق الأليف، والإنسان الطيب الهادئ والمحب أبي حيان شاهر عبيد.

العدد 1104 - 24/4/2024