عندما أوقفتني الشرطة “مشبوهاً” في حي العمارة!

عماد نداف:

 كان ذلك مساءً.. ولم تكن الشمس قد غابت بعد.

كنت قد تناولتُ طعام الغداء، ونمتُ قليلاً، ثم استيقظتُ على فراغ كبير، فلأول مرة أعودُ إلى البيت وأشعرُ أن لا عمل لدي، وسريعاً دفعني الفراغ إلى الذهاب بعيداً في ذاكرتي، فإذا أنا طفل صغير يلعبُ في حارة ضيقة، وتذكرتُ أنها حارتنا القديمة في حيّ (السادات) القريب من (العمارة).

ومثل رجل جاءه هاتف سريع، ارتديتُ ثيابي، واتجهتُ إلى هناك، حيث كنتُ أسكنُ مع أهلي في بيت عربي عتيق يجاور مسجد الأقصاب، وتلك المنطقة واحدة من الأحياء الدمشقية التي كانتْ ولازالتْ تنبضُ بحركة دؤوبة، فهي تقع على شارع رئيسي يصل باب توما بشارع الثورة والمرجة مروراً بالعمارة، وكان ذلك الشارع يغصّ بالمحلات التجارية وبحركة الناس وبسيارات تتجمع في كراجات بعض قرى ريف دمشق، إضافة إلى أن الترامواي كان يعبره على سكّتين ذهاباً وإياباً مما يجعل استعصاءات السير كثيرة فيه!

وصلتُ، وكانت الحارة رطبة باردة معتمة، الدخول إليها من ممر ضيق يصلُ الشارع العام بالباب الفرعي للمسجد، وعندما وصلتُ إلى البيت الذي كنا نسكنه وأنا طفل، وجدته مغلقاً وقد رُبط بابه بجنزير، وكأن أصحابه هجروه منذ زمن طويل، وأرادوا أن يسجنوا ذاكرته فيه!

هممتُ بطرقِ الباب، أمسكتً ب(سقّاطة) نحاسية، فرأيت لونها وقد تحول من الأصفر إلى الأسود، ولكني لم أفعل، جذبني شقٌّ في الباب، فقد تآكل جزء من باب البيت الخشبي بحيث صار يمكن أن أشاهد تفاصيل البيت الفارغ من الداخل!

كان ذلك مخيفاً..

ألصقتُ وجهي بالباب، ورحتُ أحدّق عبر الشق في المكان الذي شعرت أن الحياة دبت فيه سريعاً، وكأن الزمن عاد عشرات السنين إلى الوراء. سمعتُ أصواتاً من الداخل، الأصوات حملها الزمن إليّ، وفي داخلي يشتعل شوق إليها: هذا صوت أبي. أعرفه جيداً رغم أنه مات منذ ثلاثين عاماً. وهذا صوت بكائي وأنا طفل. أدقق في شق الباب فأرى أبي يحملني ويضعني واقفاً على المغسلة، يحاول تنظيف وجهي من الأوساخ التي علقت به نتيجة اللعب في الحارة. أنا أبكي، وأبي يتابع تنظيف وجهي.

لاحظتُ أن الدرج الخشبي الذي يصل الطابق الأرضي بالطابق الثاني توهج أمامي وتوالى وقع أقدام أمي وكأنها تنزل عليه، ثم هاهو صوتُها تخاطب أبي: كل يوم على هذه الحال لا تُعذّب حالك يا رجلْ، ولد شقي كأنه ينظف الحارة بملابسه كل يوم!

حدّقت في وجه أمي الجميل، كانت مشرقة الوجه، ضاحكة، تغطي شعرها بإيشارب أزرق يطابق لون عينيها، نزلتْ الدرج الخشبي وأخذتني من بين يدي أبي، وأنا أواصلُ الطور الأخير من البكاء احتجاجاً على تنظيف وجهي. قالت أمي:

– تعالْ .. تعالْ .. هل تبكي لأنك أصبحت نظيفاً؟

ثم مسحت أمي وجهي بمنشفة، وسألت تحتج:

– ماذا تفعل في الحارة؟ هل تتدحرج على أرضها؟!

اشتعلتْ روحي بالرغبة في الدخول إلى البيت، هززتُ الباب. كان مغلقاً بإحكام، ضربته بكتفي، فترامت قرقعته وكأنه يصرخ مستنجداً. وكان صوت أبي يأتيني من الداخل يحادث أمي عن العناية بي، وكانت أمي تحدّثه عني وعن شيطنتي والفوضى التي أحدثها في البيت، وتردد: متى يدخل المدرسة ويصبح أفضل؟!

ضربت الباب بكتفي من جديد، وأنا أقرر أنه ينبغي أن أحكي مع أمي لأقول لها إنني صرت رجلا مهذباً ونظيفاً.. أو أقبل أبي وأسأله عن صحته وعن حقيقة حادث السير الذي أودى بحياته. لكن الباب لم يُفتح. بل سمعت صوتاً من خلفي:

– من أنت؟!

ثم أمسكت يدان قويتان بذراعي، وشدّني صاحبهما بعنف، وهو ينادي:

– يا أهل الحارة.. حرامي.. أمسكت حرامي!

تجمّع الناس، فيما تعالى أذان المغرب في جامع الأقصاب. دافعت عن نفسي بكلمات مبهمة، لكن أيادي السكان أمسكت بي جيداً، وأخذوني (مشبوهاً) إلى مخفر الشرطة بتهمة سرقة لحظة من ذكريات بيتنا القديم!

العدد 1102 - 03/4/2024