من هو التقدمي ومن هو الرجعي في يومنا؟

بولس سركو:

عرّف التقدمي بأنه السائر قدماً إلى الأمام نحو عالم أفضل وأرقى وأكثر مدنية وعدالة وحرية بمنهجية العقل العلمي، صاحب التفكير النقدي، العامل من أجل تحسين ظرف الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وفق الظواهر الناشئة والمتغيرة، والرجعي هو العاجز عن التأقلم مع مسار التطور، المتمسك بمسلمات بالية، العائد نتيجة عجزه إلى زمن مضى في رؤيته وتفسيره لظواهر الحياة والمجتمع بمنهجية مثالية.

أصاب المفهومَين تشويهٌ كبير من جملة المفاهيم التي ضربتها ثقافة العولمة المتوحشة، فمع علمنا بقوانين التطور الاجتماعي وإمكانية انقلاب الظواهر إلى ضدها في الديالكتيك، يصيبنا الدوار ونحن نقرأ الدلالات المركبة لمفهومي التقدمية والرجعية في كتابات مفكري ما بعد فوكوياما، ولنقل بصورة أدقّ أتباعه والصورة المقلوبة التي روجها هؤلاء، فصار ينظر مثلاً إلى السياسات الخليجية باعتبارها متقدمة أو تقدمية، بسبب التطور العمراني والرفاه الاجتماعي الذي حققته بفائض أموال النفط وليس بالتنمية. ولا شك أننا جميعاً سمعنا من يتبنى مثل هذا التصنيف الفوضوي الذي يخلط بين المعاني السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمفهومين، كما سمعنا كثيراً من يتبنّى فكرة رجعية الفكر الماركسي التقدمي وتخلّفه، في المقابل، ولا شك أن أصحاب هذه الرؤى تلقنوا معلوماتهم كمسلمات لم تخضع للفحص والتحليل والنقد.

وبما أن ماركس، في قناعة هؤلاء، هو بحكم المنتهي الذي تجاوزه الزمن، فإن ربطه فكرة التقدم في التاريخ بالتناقض بين قوى الإنتاج وعلاقاته صار من الماضي أيضاً، والمبرر هو ظهور قوى إنتاج وعلاقات إنتاج جديدة تختلف عن تلك التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، وهو مبرر واقعي يراد منه باطل، فقوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الجديدة لم تحلّ ثقافة ما بعد الحداثة التناقض المستمر القائم بداخلها، ولا تنظر إليها أصلاً كعوامل دفع في حركة التطور، بل عمّقت ذلك التناقض، لأن مفهوم التقدمية المطروح اليوم منزوع من سياقه الاجتماعي، وهو ما يسهل إطلاقه جزافا على أفراد أو كيانات لا تتطابق مع معناه الفعلي، بالسهولة نفسها التي تطلق فيها صفة الرجعية على أفراد وكيانات لا تتصف بها.

مع الإقرار بحاجة الماركسية اليوم إلى التجديد وفق قوى وعلاقات الإنتاج الجديدة، وهو ما عمل عليه مفكرون كبار كتيري أيغلتون والراحل سمير أمين وغيرهما، لكن الفكر المعاصر غير الماركسي لم يطرح أية بدائل علمية جدية لمفهوم التقدم – التقدمية، لأنه بالأساس فكر متناقض مع هذا المفهوم، ولو أنه جاء بعده زمنياً، فما تزال قوانين العالم الموضوعي هي ذاتها قوانين الحركة والتطور، وما يزال المفهوم مرتبطاً بها إلى أن يفقدها الواقع الجديد صلاحيتها، بالمعرفة العلمية، لا بالمسلّمات.

من يفهم طابع التطور الفكري الرجعي الجديد ومصدره لا بد أن يقر ببساطة باستمرار صلاحية المفهوم التقدمي الماركسي، وذلك لأن جملة الانعطافات التاريخية الأخيرة في الفكر التي شهدها عالمنا لم تنطلق من الذروة العقلية العلمية التي وصلت إليها الماركسية نحو الأرقى والأعلى، بالعكس فقد جرى الانقضاض على تلك الذروة ودفع التطور نحو الوراء بنظرات ميتافيزيقية شائخة وبالية ألبست ثوباً معاصراً. هذا ما فعلته ما بعد الحداثة  التي وصفها الفيلسوف والناقد (فريدريك جيمسون) بأنها المنطق الثقافي المهيمن للرأسمالية المتأخرة، التي اعتدنا على تسميتها بالعولمة المتوحشة، وهي تعود كمصطلح إلى القرن التاسع عشر أيضاً، وكحركة إلى أواخر ستينيات  القرن العشرين مع اندلاع ثورة الطلاب وما تلاها من أدب وعمارة وتفسير للتاريخ والقانون والثقافة، وكفعالية عالمية منتشرة على نطاق واسع إلى الثمانينيات والتسعينيات مع الإحباط الذي أصاب المشروع الاجتماعي الديمقراطي إثر تحول حكومات الغرب لتبني مبدأ السوق الحر، مما قوض فعالية الطبقة العاملة والنخب المثقفة بسبب الرشوة والخرق الإيديولوجي الأمني.

ما بعد الحداثة سرقت مبدأ الشك من النظرية العلمية الماركسية ورمت بكل ما تبقى في سلة المهملات، مدّعية عدم انسجامه مع عصرنا. والحقيقة أنه ليس منسجماً مع الهوية الرأسمالية لهذه الثقافة التي تنطبق عليها مقولة لينين في الدفاتر الفلسفية: (تجعل من الحقيقة شيئاً مبتذلاً). إنها اعتراض فوضوي حازم وتدميري على حداثة الأنوار التي بدت عتيقة وشمولية بنظرها. والتقدمية البديلة المطروحة هي إغراق في ذاتية الفرد إلى جانب تنوع غير محدود على الهدف والحقائق والمبادئ، وهي مواصفات التوحش الرجعية المنزوع عنها كفنها.

شنّت ما بعد الحداثة أعنف الهجمات البربرية الانفعالية على ماركس ومفهومه التقدمي الديالكتيكي لحل التناقضات في الأشياء المتبدلة لتصبح قوة رئيسية محركة للتطور، لنفي هذا المفهوم  عبر إحياء مصطنع متواتر لما سبقه من نماذج ثقافية بالية ومتخلفة جداً، تجعل من العالم مفرخة للفوضى والعنف الدموي الساري في شرايين مختلف أنواع التراث البدائي للشعوب. فكل مظاهر التطرف والعنف والتقوقع في الهويات الطائفية والمذهبية والعرقية، وكل هستيريا هذا المناخ الإيديولوجي الرجعي الذي نعيش فصوله هو نتاج المشروع ما بعد الحداثي، ولذلك يبدو استمرار الصورة المقلوبة لمفهومي التقدمي والرجعي في ذهنية ضحايا التضليل مستغربة أشد الاستغراب، بعد ظهور هذه النتائج على الأرض لفكر لا جديد فيه سوى أنه مفروض على عالم نحيا فيه  ممن يتحكمون به قسراً، فكر هدام معرقل للتطور، عاجز عن الارتقاء بما سبقه وعن تحليل دقيق للتاريخ، وعن تصور إنساني للمستقبل، بينما تؤكد لنا  قوانين التطور الاجتماعي أن الطبيعة في حركة تطور مستمرة، سينقلب فيها هذا الافتعال إلى ضده حين يبلغ التراكم الجديد ذروته القصوى. وليست الأزمات المالية الخانقة للرأسمالية العليا التي كانت آخرها عام 2008 أزمة القروض العقارية أكبر الأزمات بعد الحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة الأمريكية وما نجم عنها من تبعات كارثية اقتصادية وعسكرية على مستوى العالم سوى المؤشر المتصاعد لذلك التراكم الذي كان ماركس قد استشعره في تحليله لنمط الإنتاج الرأسمالي وتناقضاته المتضمنة الكامنة، أقلها ترافق الازدهار والنمو بالعنف والظلم، وهي تناقضات يعمقها أكثر فأكثر الإيديولوجيون الليبراليون الجدد الفاشلون الذين وصلوا إلى طريق مسدود، مما فرض عودة ماركس مجدداً إلى واجهات المكتبات الكبرى في الغرب بعد 135 سنة على وفاته، لأن الكثيرين باتوا مقتنعين بأنه الضمان لتطور الإنسانية التاريخي ورمز للتقدم والتقدمية.

المجلة الفرنسية (لو نوفيل أوبسرفاتور ) كرست عام 2003 عدداً خاصاً لماركس بعنوان (مفكر الألفية الثالثة ) (راجع جريدة الأخبار اللبنانية) وتربع على عرش أهم الشخصيات الألمانية في التاريخ حسب تصويت أكثر من 500000 مشاهد في استطلاع للرأي مولته شركة التلفزيون (ذي دي اف) عام 2004. وعام 2005 نشرت الأسبوعية (ديرشبيغل) صورته على غلافها مع عنوان (عودة هاجس)، كما صوت مستمعو برنامج (في وقتنا) على إذاعة (بي بي سي ) لماركس كفيلسوفهم الأعظم. فإذا كان الملياردير الماسوني جورج سورس، العدو اللدود للماركسية، الذي أنفق ملايين الدولارات على محاربة الشيوعية، قد أقر للمنظر الفرنسي جاك أتالي: (كنت أقرأ ماركس للتو وهناك أشياء فظيعة كثيرة قالها)، فعلى من يتهموننا بالرجعية التدقيق في المعلومات التي غرستها في وعيهم الدعاية السياسية للعولمة المتوحشة، عليهم أن يدركوا أن التاريخ المندفع إلى الأمام بلا توقف قد فاتهم على قارعة ما بعد الحداثة.

 

العدد 1104 - 24/4/2024