أمريكا.. والمسرحية الكيميائية على الخشبة السورية!

جريدة النور

المحامي فؤاد البني:

أطلق الرئيس الأمريكي باراك أوباما إعلانه الشهير في العشرين من آب عام 2012 حول (الخط الأحمر)، مشيراً إلى أنه (إذا ما لحظ في سورية نقل للسلاح الكيميائي أو استخدام للمواد السامة، فإن حساباته سوف تتغير تغيراً ملموساً)، وأن السياسة الأمريكية سوف تنتقل إلى استخدام القوة. وبنى موقفه الشخصي على أن (المجتمع الدولي) هو من رسم خط اللاعودة تجاه الأزمة السورية. وحذا حذوه ديفيد كاميرون (رئيس الوزراء البريطاني) وكذلك فرانسوا هولاند (الرئيس الفرنسي) في بناء موقفهما على أن استخدام السلاح الكيميائي سيفضي إلى حجة شرعية من أجل التدخل المباشر في سورية.

وسبق أن جرى تهديد دمشق بمعاقبتها بقسوة، بغض النظر عن طرف النزاع الذي سوف يستخدم المواد السامة، وقد حدث فعلاً، في وقت لاحق، استخدام المواد السامة في سورية، وأول فصول مسرحية الكيميائي على الخشبة السورية بدأت في خان العسل (ريف حلب) في 19 آذار 2013 بهجوم بالمواد السامة، وكان أغلب المتوفين من جنود الجيش العربي السوري. وفي اليوم التالي وجه وزير الخارجية السوري وليد المعلم رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة (بان كي مون) طلب منه فيها تنظيم تحقيق فوري وحيادي ومستقل بهدف تحديد الجهة المسؤولة عن هذا الهجوم، وإن سورية مستعدة، بشتى السبل، للمساعدة في التحقيق. وقد استجاب الأمين العام لهذا الطلب بإرسال لجنة خبراء فنيين إلى سورية للتحقيق في هذه الحادثة، ولكن فرنسا وبريطانيا تمكنتا من إعاقة عمل هذه اللجنة، إذ طلبتا بأن يشمل عمل اللجنة هجومين آخرين بالسلاح الكيميائي وقع الأول في حمص في 23 كانون الأول 2012 والثاني في العتيبة بغوطة دمشق، ولم يتذكرهما الفرنسيون والبريطانيون إلا بعد مرور عدة أشهر، وعلى الأخص حادثة حمص. وكان الهدف من هذا الطلب تقويض التحقيق ووقفه. وأدركت الحكومة السورية اللعبة التي تدار، ومع ذلك وافقت على وصول البعثة إلى مواقع أخرى بعد أن ينتهي التحقيق في حادثة خان العسل، غير أن ذلك لم يرضِ هؤلاء وطالبوا بتكليف مفتوح للخبراء. ومن أجل طمس كل معالم الجريمة، استولى المسلحون في 21 حزيران 2013 على بلدة خان العسل، وأول ما فعلوه أنهم قتلوا كل الشهود على الهجوم، وأطلقوا النار على الأطباء الذين ساعدوا المتضررين، وكان الهدف من كل ذلك تحميل المسؤولية عن الهجوم للحكومة السورية. أما الفصل الثاني من المسرحية فكان بتاريخ21 آب ،2013 أي في اليوم التالي لوصول خبراء الأمم المتحدة لمواصلة التحقيق في كيميائي خان العسل، وهذه المرة في ضواحي دمشق (الغوطة الشرقية)، وراحت وسائل الإعلام الغربية وبعض العربية كالعادة تبث لقطات غير محققة منها للضحايا، وقُدِّم كل شيء في سياق لا يبقي أدنى شك في أن السلطة السورية هي من استخدم السلاح الكيميائي، وكان على خبراء الأمم المتحدة الذين وصلوا إلى سورية أن يحققوا في الحادثة، وأعطت دمشق مواقفتها بهذا الشأن، وقد لفّ استخدام الكيميائي في الغوطة كثير من الغموض، وظهرت على الفور لدى المتخصصين الذين استعرضوا مع الدبلوماسيين والصحافيين الشريط المصور، قبل وقوع الهجوم نفسه، أن الأعراض التي ظهرت على الضحايا لا تشبه تماماً تلك التي تظهر عند التسمم بالسارين أو غيره من المواد السامة، ولم يكن واضحاً لماذا ظهر الأطفال المستلقون أرضاً في الشريط المصور في مكان واحد، ولم يوجد مع الأطفال وبالقرب منهم أي من كبار السن، ولم يكن لدى من أسعف الضحايا أي من وسائل الوقاية الفردية، وأعلنت أمريكا على لسان وزير خارجيتها جون كيري أن استخدام المواد السامة قد جرى وتحديداً من قبل النظام السوري، دون أن يقدم أي دليل، وراح الشركاء الفرنسيون يتهمون دمشق، وتصاعدت اللهجة بصوت عال عن تجاوز الخط الأحمر، وأخذ الحديث يدور عن توجيه ضربات للأهداف العسكرية وليس الكيميائية، بما فيها مقرات القيادة والمطارات ومستودعات السلاح. غير أن التدخل باستخدام القوة لم يلق تأييداً ودعماً من المجتمع الأمريكي نفسه، إذ رأى البعض أن الهجوم الكيميائي هو عملية استفزاز من المسلحين نفذوها بدعم من السعوديين والأتراك الذين أرادوا التدخل الأمريكي، وهذا التدخل سيؤدي إلى ازدياد قوة المتطرفين وإلى زعزعة الاستقرار في المنطقة، ولكن أوباما ذهب لنيل موافقة الكونغرس الأمريكي على استخدام القوة، على الرغم من أن القانون الأمريكي يتيح للرئيس الحق في مجال الصلاحيات في الخارج من غير الموافقة المسبقة من الكونغرس. ومن أجل وقف هذه الهيستيريا السوداء بالإقدام على ضرب سورية، تقدمت روسيا، على لسان الرئيس فلاديمير بوتين، على هامش قمة العشرين المنعقدة في سان بطرسبورغ بتاريخ 5 و6 أيلول ،2013 بمبادرة تقضي بانضمام سورية إلى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، ومساعدة الأمريكيين والرئيس باراك أوباما تحديداً بالخروج من هذه الأزمة التي وضع نفسه فيه، ولم يتوقع الأمريكيون أن تتحول هذه المبادرة إلى واقع ملموس بتنفيذ هذه المبادرة. وسلمت الحكومة السورية في 12 أيلول 2013 الأمانة العامة للأمم المتحدة المرسوم الرئاسي الذي ينص على موافقة الجمهورية العربية السورية على الانضمام إلى معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية. وسارع الخبراء الروس والأمريكان إلى وضع وثيقة اتفاق لتدمير السلاح الكيميائي السوري، وقام مجلس الأمن بإصدار القرار رقم 2118 الذي ينص على تسليم وتدمير الترسانة الكيميائية السورية، وتخلت واشنطن عن توجيه الضربات العقابية على سورية، وارتاح العالم من الحرب التي كانت على وشك أن تقع.

ومع دخول دونالد ترامب البيت الأبيض، فإن فصول المسرحية الكيميائية في سورية لم تتوقف، ففي الرابع من نيسان عام 2017 وقع هجوم كيميائي على بلدة خان شيخون في محافظة إدلب، ولم تحدد هوية المستخدم، وفي اليوم التالي أعلنت لجنة التحقيق الأممية أنها شرعت بالتحقيق، وعقد مجلس الأمن اجتماعاً طارئاً لمناقشة الحادثة، وحملت لجنة التحقيق المشتركة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية الحكومة السورية مسؤوليتها عن الهجوم، وأكدت سورية أن جيشها ليس لديه أي نوع من الأسلحة الكيميائية ولم يستخدمها مسبقاً، وأوضح القائم بالأعمال بالنيابة عن سورية المندوب الدائم لدى الأمم المتحدة خلال جلسة لمجلس الأمن أن الحكومة السورية وجهت أكثر من 60 رسالة إلى الأمم المتحدة تتضمن معلومات موثقة عن حيازة المجموعات الإرهابية مواد كيماوية سامة وصلت إليها عبر الحكومة التركية بشكل خاص. ومع الأسف وبعد ثلاثة أيام من وقوع الهجوم، أي في السابع من نيسان، أطلقت واشنطن 59 صاروخاً موجهاً عالي الدقة على القاعدة الجوية بمطار الشعيرات في حمص بصواريخ توما هوك، رداً على ما أسمته مجزرة خان شيخون، التي اتهمت بارتكابها الحكومة السورية. وتابعت المسرحية فصولها في الهجوم الكيميائي المزعوم في دوما بالغوطة الشرقية، على إثر عرقلة تنفيذ الاتفاق بين الحكومة السورية والمسلحين (جيش الإسلام) وخروجهم من دوما إلى إدلب، ما حدا بالقوات الأمريكية والفرنسية والبريطانية بتاريخ 18/4/2018 باستهداف عدد من المواقع في سورية، وادّعت أن ذلك جاء لمعاقبة دمشق على شنها هجوماً كيميائياً مزعوماً في دوما بالغوطة الشرقية. لاقى هذا العدوان الثلاثي ترحيباً من عدة دول عربية كقطر والسعودية والبحرين والأردن والإمارت والكويت، ومن تركيا وإسرائيل، وأعلنت تأييدها التام للضربة العسكرية على سورية، وحمّلت المسؤولية كاملة للحكومة السورية.

ولابد من الإشارة إلى أن وراء كل هذه المسرحية الكيميائية وإخراجها وتغطيتها الإعلامية المصورة ما يسمى بمنظمة (الخوذ البيضاء) وهي اليد الطولى للاستخبارات البريطانية، أُسِّست في عام 2013 كمنظمة تطوعية إنسانية تتصف بالحياد، كما يصورها الإعلام الغربي، وجرى تمويلها من عدد من الدول منها بريطانيا والولايات المتحدة والمنظمات غير الحكومية من هولاندا وألمانيا والدنمارك، ووصلت إليها معدات وتجهيزات أخرى بذريعة مساعدة المدنيين في سورية، ولكنها على عكس ما تدّعي قامت بقتلهم، وكثيراً ما تظهر مقاطع الفيديو المصورة لرجال الخوذ البيضاء يحملون السلاح ويشاركون في الإعدام لضحايا الإرهابيين، ويدوسون على جثث الجنود ويلوحون بالرأس المقطوع، ما يعني أنها إحدى أذرع الإرهاب الموجود على الأرض السورية. رغم كل هذا جرى ترشيحها لنيل جائزة نوبل للسلام، ومنحت جائزة الأوسكار عن أحد أفلامها المفبركة.

في الطرف المقابل، ومنذ بداية الأزمة السورية، وقف الاتحاد الروسي إلى جانب سورية انطلاقاً من الموقف المبدئي المؤيد للقانون الدولي باحترام سيادة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، ونظراً لمساعي الغرب إلى بسط السيطرة على الدول والتدخل في شؤونها الداخلية، والعمل على تغيير أنظمة الحكم فيها بالقوة، وعلى رأس هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية الساعية إلى تنفيذ سياسة القطب الواحد بالسيطرة على العالم واستخدام كل الأساليب بما فيها المنابر الدولية، ومنها مجلس الأمن الدولي، إذ سعت من خلاله إلى  استصدار قرار دولي يتيح لها التدخل في الشأن السوري، على غرار المسألة الليبية، كانت روسيا تقف في مواجهة مثل هذه المشاريع بالمرصاد للحيلولة دون اتخاذ مثل هذا القرار. وعلى مدى السنوات السبع من الأزمة السورية من تاريخ 4/11/2013 إلى 10/4/2018 استخدمت روسيا حق النقض وعطلت كل مشاريع القرارات التي تقدمت بها الولايات المتحدة وحلفاؤها اثنتي عشرة مرة، منها أربعة مشاريع استخدم فيها الفيتو المزدوج (النقض) من قبل روسيا والصين، وستة مشاريع منها تتعلق بتحميل سورية مسؤولية استخدام الأسلحة الكيميائية، نافية أن تكون سورية قد استخدمت السلاح السام ضد شعبها، وأن من حق سورية أن تدافع عن نفسها في مواجهة الإرهاب وداعميه الذي تتعرض له.

ومع أي تقدم للجيش العربي السوري لاستعادة جزء من الأراضي الخارجة عن سيطرة الدولة من أيدي الإرهابيين، تتعالى الأصوات المطالبة بتوجيه الضربات العقابية، وإن كانت المسرحية أصبحت في فصلها الأخير، نجد أن مؤامرة جديدة تستعد لها الولايات بترتيبها مسرحية كيميائية جديدة عن طريق منظمة الخوذ البيضاء وأجهزة الاستخبارات العسكرية وعملائها وأدواتها لاستخدام الأسلحة الكيميائية ضد المواطنين السوريين، في المناطق التي يسيطر عليها الإرهابيون، لكن هذه الألاعيب القذرة والمفبركة أصبحت مكشوفة، ولاسيما أن سورية خالية من الأسلحة الكيميائية، بعد أن جرى تسليمها لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وهذا السعير الملتهب لضرب سورية، إذا ما استخدمت الأسلحة الكيميائية كما يدعي ترامب، لن ينال من عزيمة الشعب السوري وإصراره على مواصلة الوقوف في وجه الإرهاب وداعميه حتى تحرير كامل التراب السوري، وإن صمود الشعب السوري وجيشه الباسل في التصدي لكل أشكال التآمر، منذ ما يزيد على سبع سنوات، بالتعاون مع الدول الصديقة والحليفة، سوف يحقق النصر، ويسقط كل الأحلام والمشاريع الاستعمارية في ثوبها الجديد.

 

العدد 1105 - 01/5/2024