شاليط برشلونة… ومهانة الأوربيين!

الرياضة نتاج للسياسة أحياناً، وهي مكملة وحاملة لوظيفة قد تعدم السياسة لأساليب تنفيذها فتلجأ لوسائل أخرى تنبري الرياضة لتكون إحداها. كما أن ما لا يستطيع البعض تمريره بالسياسة يستطيعون دسه في الرياضة ليخرج زكياً فواحاً، بدل أن يكون منفر الرائحة مقززها لدى خروجه بعباءة السياسة.

أدمن الأوربيون المهانة في تعاملهم مع الإسرائيليين في كثير من المواقف والأفعال، بدءاً بالتعويض الذي لا ينتهي عن الإبادة المزعومة لليهود خلال الحرب العالمية الثانية، مروراً بتعاطفهم مع الكيان الصهيوني ووقوفهم إلى جانبه طوال فترة احتلاله للأرض العربية باعتباره كيانا ضعيفاً في وسط معادٍ. وصولاً إلى الحاضر الذي إضافة إلى كل ما سبق بالزيارات التي يقوم بها بعض الساسة الأوربيين إلى حائط المبكى قبل خوضهم الانتخابات متمثلين في ذلك مرشحي الرئاسة الأمريكيين. ومن لم يستطع للمهانة عند هذا الحائط سبيلاً يمتهنها على أرضه في استقباله رموزاً إسرائيليين، هم في الواقع قتلة يظهرون في هيئة أبطال أو شخصيات من المجتمع المدني، استقبال كبار الشخصيات. تجلّت إحدى تلك المواقف المهينة منذ فترة في استقبال الرئيس الفرنسي السابق نيقولا ساركوزي لشاليط في قصر الرئاسة، الإيليزيه، في الثامن من شباط الماضي ورافقه إلى باب القصر كي يودعه وداع الرؤساء وكبار الزوار في مشهد من المهانة الفرنسية التي لا يجاريها أو يضاهيها سوى تقاطر الساسة الأوربيين وغيرهم إلى منزل أهله لمواساتهم خلال فترة أسره. كذلك الدعوة التي أطلقها جاني رومانو عمدة بلدية روما عندما طالب بمنح القاتل شاليط جائزة نوبل للسلام عقب زيارته للأخير في منزله مهنئاً إياه بإطلاق سراحه. مبرراً تلك الدعوة بأن شاليط يعد من أكثر الشخصيات التي تستحق التقدير والإجلال بسبب معاناته في الأسر لمدة خمس سنوات. طبعاً نسي رومانو أو تناسى، أو ربما لا يعلم، أو أنه لا يريد أن يعلم أن شاليط قد »أطلق سراحه« بموجب صفقة حُرّر بفضلها أكثر من ألف فلسطينية وفلسطيني كانوا أسرى في سجون السلطات الإسرائيلية التي تحتل أرضهم. وكان منهم من أمضى أكثر من خمس سنوات في الأسر، ومنهم من ينتظر أسرَ شاليطٍ آخرَ كي يُفْرَجَ عنه وعن آلاف آخرين.

فشاليط، الذي أطلقت حركة حماس سراحه في الثامن عشر من تشرين الأول العام الماضي (2011)، هو الذي هاجم الفلسطينيين الآمنين في قطاع غزة وأُسِرَ هناك وليس في مكان ما في ما يسمى »إسرائيل«. فهو كان في مهمة يقتل فيها أصحاب الأرض التي احتلها أهله. هو الذي ولد فوق ترابها المغتصب وتنسم هواءها المسروق. هو الذي شرب من مياهها المصادرة. هو من سكن في بيتٍ قُتِلَ أهله في غرفة نومهم أو غرفة جلوسهم أو على درج السلم المؤدي إلى عش حمائمهم. وهو تهادى على البلاط الذي شرب من دمهم. هو أغلق النوافذ التي صنعتها أيديهم. هو قطف البرتقال الذي زرعه أجدادهم. هو ملأ دلوه من البئر التي حفرتها سواعد أعمامهم. هو تنسم عطر الجوري الذي هذبت شتلاته أخواتهم. هو نام على الصوف الذي قدمته لهم خرافهم. هو شاليط، وهو الذي يستقبل كالرؤساء.. يا للمهانة. هو شاليط، وهو الجندي القاتل، يكرم في أوربا .. يا للعار!  

بعد الفرنسيين، وبعد الإيطاليين، ها هم أولاء الإسبان يتجرعون كأس المهانة باستقبالهم شاليط كضيفِ شرفٍ لتكريمه على هامش المباراة التي ستقام في السابع من هذا الشهر. في مشهد يعكس مدى تحكم الإسرائيليين بالغرب، وباتخاذهم شاليط ليكون أحد تجليات هذا التحكم. لا يزال اللغط قائماً بين حقيقة إن كان النادي قد دعاه فعلاً وبين نفي إدارة الفريق توجيهها الدعوة له، أو إن كانت قد تراجعت عن الدعوة بعد الاستهجان والاحتجاج الذي رافق تلك القضية على الصعيد المحلي الإسباني والعربي، وخاصة من جانب الشعب الفلسطيني. أياً تكن حقيقة الدعوة أو عدمها، فقد قيل إن شاليط سيحضر المباراة كمشاهد عادي، وهو ما يثبت أنه قد دُعي ثم تراجعوا عن الدعوة بعد تلك الاحتجاجات. ومهما يكن الأمر فإننا لا ندري ما هو مبرر الفريق الإسباني للدعوة. وقد ظهر أن الإسبانيين يعلمون السبب، وهم لذلك قد فقدوا مشجعين عرباً وأندلسيين. كذلك هم يعدمون المبرر وبدوا محرجين في ردهم وتبريرهم، حرجٌ شابَهَ حرج ساركوزي يوم استقبله. يومذاك فكر  ساركوزي في نفسه: ماذا سيقول لشعبه عن سبب الاستقبال؟ وماذا سيقول للكاميرا في الخارج؟ ماذا سيقول لزوجته كارلا؟ وماذا سيقول لنفسه قبل النوم؟ هو الذي كانت فرنسا كلها تبدو أول حكمه كمن نُوّم مغناطيسياً من قبل هذا الرئيس المربك بنشاطه الشديد واللاهج بخططه الغامضة. كيف لرئيس فرنسا العظمى أن يظهر مودعاً هذا الشاب النحيل المرتبك الذي لا يمكن أن تتلبسه صفة ما أو تسمية؟ ثم أليست فرنسا طرفاً في الرباعية الدولية؟ فلماذا لم يستقبل ساركوزي أسيراً فلسطينياً محرراً.. (عفواً! هل يعرف ساركوزي اسم أي أسير فلسطيني؟). كان الحياد سيبدو عندئذ في أبهى صوره، لائقاً بمن انتخبه شعبه بأعلى النقاط. لكن لا يهم! فلتكن هكذا: (لقد استقبلته لأنه يحمل الجنسية الفرنسية)، قالها ساركوزي مبرراً. ولتخرس كارلا! ولتخرس الكوابيس! ولتخرس الكاميرات! لكن ساركوزي كان يعلم أن الطريق إلى الإيليزيه أصبح مثل الطريق إلى البيت الأبيض، يمر بحائط المبكى. إذاً فليأت شاليط إلى الإيليزيه! ولتكن .. المهانة!

من المؤكد أن شاليط الذي بدا مرتبكاً بحضرة ساركوزي – المرتبك أصلاً لانعدام سبب اللقاء- ولم يكن يعلم لماذا سيستقبله هذا الرئيس أو حتى الدوافع وراء اللقاء، سيبدو مرتبكاً في مهرجان برشلونة. فهو لم يقدم شيئاً سوى أنه إسرائيلي. هو لم يفعل شيئاً سوى أنه أُسِرَ. وهو لم يُؤسَر سوى لأنه كان يقتل أهل الأرض فوق أرضهم. وشاليط يعلم أن من الأسرى على الجانب الآخر من يستحق أن يكرمه برشلونة. وهو يعلم أن كيانه يصغر أمام ظلِّهم. وهو يعلم أنه مازال في المعتقلات الإسرائيلية آلاف الأسرى الفلسطينيين الذين لا يشغل تفكيره فيهم ساركوزي أو رومانو أو روسيل. وشاليط يعلم أنه ذهب إلى غزة كي يَقتُلَ، وهو صادف هناك رجالاً يدفعون عن أنفسهم القتل بحب الحياة. إذاً رغم ذلك، فشاليط القاتل يُكرَّم في أوربا.. يا للعار! ويستقبله قادتها ويودعونه على باب قصورهم .. يا للمهانة!

العدد 1104 - 24/4/2024