السلفية و(ثورات الربيع العربي)

منذ اندلاع ما يسمى ب(ثورات الربيع العربي) في عدد من الدول العربية، كان واضحاً وأصبح لاحقاً جلياً للجميع تخلف التيار الإسلاموي عن المشاركة في هذه الاحتجاجات الشعبية في أيامها الأولى، إلى أن تأكد هذا التيار بتلاوينه من اتساع الحركة الشعبية الاحتجاجية في مصر وتونس، وبعد أن اتضح أيضاً اهتزاز هذه المؤسسات الحاكمة واضطرار المؤسسة العسكرية في هذين البلدين  (يشير المراقبون إلى حجم التدخل والزيارات الرسمية الأمريكية إلى هذين البلدين، ولقاءاتهم مع المؤسسة العسكرية ومطالبتهم رئيسَيْ البلدين بالتنحي)، اضطرار هذا التيار إلى التدخل لصالح (حركة) الشارع، الذي بادرت إليه الرموز والقوى الليبرالية والوطنية واليسارية وتصدرت حركة الاحتجاجات. وإثر اتساع الحركة الشعبية ورفعها مطالب شعبية مطلبية- سياسية تلبي طموحات الطبقات والفئات الأكثر اتساعاً، شاهدنا انضماماً تدريجياً للتيار الإسلاموي – السياسي- بتلاوينه، ورفعه آنذاك وفي البداية شعارات (التشاركية) و(التوافق).. إلى أن تبينت بشائر سقوط نظامَيْ زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر (مع اختلاف دور المؤسستين العسكريتين التونسية التي وافقت على انتخابات برلمانية مبكرة، والمصرية التي أمسكت بالسلطة أكثر من عام، إلى حين إجراء الانتخابات البرلمانية التي جرى الطعن بدستوريتها).

وإن كان التيار الإخواني المصري بدعم من التيار السلفي (حزب النور) قد سرق الثورة مؤقتاً، واحتكر المؤسسات (الحكومية والرئاسية، ومجلس الشورى)، ووصل إلى المجلس العسكري وأجرى تعديلات هي الأكبر والأهم في تاريخ المؤسسة العسكرية المصرية، ومارس الشمولية السابقة بطريقة أبشع، وتنصّل عملياً من مبدأ (التشاركية) و(التوافق) المؤقتين مع الآخرين، فإنه مارس سياسة إمساك العصا من الوسط، وتجلى في التحاور العلني مع الأمريكان، والالتزام بسياسة النظام السابق على علاتها وسلبياتها، واحتكار السلطات كافة، واستبعاد القوى والرموز التي بادرت إلى الاحتجاجات والثورة، أو تمثيلها الرمزي من جهة، كذلك التعاطي مع التيار السلفي المتشدد بوصفه الحليف الإسلاموي (الاستراتيجي)، وتالياً ضرورة تفضيل الآخرين التعامل معه، بوصفه (تياراً معتدلاً)، أو ترك الساحة للخلاف بين السلفيين والقوى الأخرى بتلاوينها الديمقراطية والليبرالية من جهة أخرى.. ولهذا تبعاته ودلالاته المصرية والإقليمية والدولية أيضاً. (وهذا ما عبرت عنه التظاهرات الشعبية المتعددة ضد الأخونة والأسلمة السياسية، وهي آخذة بالاتساع).

أما في تونس، ورغم قيام ائتلاف ثلاثي بقيادة حزب النهضة الإسلاموي، فإن دور تيار السلفيين والتكفيريين لم يكن أقل من مثيله في مصر، إذ طالب بوحدانية الشريعة الإسلامية، وبالقرآن كحكم، وبأن الإسلام هو الحل.. وغير ذلك من الشعارات التي لا يمكن أن تكون مقبولة في تونس (أكثر الدول العربية ليبرالية- اجتماعياً).. وتجليات هذا النشاط السلفي في حرق المكتبات ودور السينما والمقاهي.. وهذا ما يبرر بداية الأزمة بين مكونات الائتلاف الثلاثي، وتالياً عدم إمكان استمراره موضوعياً، وإعلان راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة الإسلاموي، رفضه للنشاطات السلفية، ثم تراجعه عن ذلك بعد أل من 48 ساعة (نظراً لتبعاته التونسية أولاً).

وفي ليبيا التي انتصرت (ثورتها) بفعل تدخل الناتو أولاً وأخيراً، فإن الصراعات مستحكمة بين التيارات الوطنية والإسلاموية والتكفيرية، وتتجلى في الاقتتال الليبي- الليبي، وفي سيطرة فروع القاعدة والتيار السلفي على مدن ومناطق ليبية، وفي الاحتجاجات الشعبية الأخيرة في مدينة بنغازي (مدينة الثورة كما يسمونها)، وحرق مكاتب الحركات السلفية، وطرد أعضائها من العديد من المناطق والمدن الليبية.. يتعاطى السلفيون والتكفيريون مع الآخرين أيديولوجياً ودينياً من منطلق الانصياع لتوجهاتهم أوتصنيفهم كخونة وكفرة يفترض محاربتهم.

وهذا ما نلحظه أيضاً في نشاط مجموعات القاعدة وامتداداتها في اليمن، بعد التغيّرات التي أنجزتها الاحتجاجات الشعبية، وفي الصراع المفتوح والعلني بين قوات الحكومة اليمنية، مدعومة من القوات الأمريكية (المارينز) مع الامتدادات السلفية والتكفيرية، ولا تؤشر الاشتباكات القائمة إلى حل قريب لهذه الإشكالية.

كذلك اعتراف الدول (الغربية) والولايات المتحدة بازدياد نشاط مجموعات القاعدة والسلفيين في سورية، وإعلانهم الجهاد الإسلاموي، وتحويل سورية إلى إمارة إسلاموية خطوة نحو (أسلمة) العالم العربي على طريقتهم.. وهذا ما يضع الغرب والولايات المتحدة أمام أزمة مركبة عنوانها تجربتهم المريرة في أفغانستان وباكستان والقرن الإفريقي، التي تتلخص في إقامة هذه الحركات ودعمها، ثم التعارض الموضوعي معها، وتجييش العالم ضدها! بسبب من اختلاف المصالح والأهداف أولاً، وانتهاء دور هذه الورقة عملياً في البلدان المذكورة ثانياً.

بقي أن نشير إلى الانتهازية والازدواجية في تعامل التيار الإخواني مع (ثورات الربيع العربي)، ومحاولته قيادته لأسباب محلية وإقليمية ودولية، وبضمنها اختلاف موازين القوى الدولية بعيد تفكك الاتحاد السوفييتي وتبعاته، وإلى الاختلافات والتباينات بين القوى العلمانية على تنوعها، رغم المخاطر المحدقة بها جميعاً، وفي مقدمتها أخونة ما يسمى ب(ثورات الربيع العربي) وأسلمته سياسياً وأيديولوجياً.. كذلك إلى استفادة التيار السلفي الأكثر تشدداً من (مرونة) الحركة الإخوانية، ومحاولته توسيع قاعدته الشعبية بوصفه المدافع الحقيقي والأوحد عن الإسلام، الذي هو منه براء، واستمرار لعبة شد الحبل بين الأطراف الإسلاموية من جهة، وعدم التوافق، للأسف، حتى تاريخه بين القوى العلمانية من جهة أخرى.

أما الموقف الشعبي الذي اختبر الأنظمة الشمولية السابقة في هذه البلدان، فإنه اكتشف سريعاً مخاطر (الأخونة والسلفية والتكفيرية)، وأن هذه المرحلة مؤقتة، إنما تتطلب توافق الرموز والقوى العلمانية على تنوعها، التي تشكل معاً عاملاً حاسماً. وهذا ما يجب إدراكه والعمل على إنجازه بوصفه الطريق الأقصر لتحقيق مطالب الحركات الاحتجاجية وتغييراتها، وصون سيادة الدول، وحماية نسيجها الاجتماعي، وخصوصياتها الثقافية، ومنع التدخل الخارجي في شؤونها، وإقامة تعددية وشراكة حقيقية في الوطن.. وهذا ما يفترض بالقوى الغربية والولايات المتحدة إعادة النظر به، بعد أن عانت من تبعات طالبان والقاعدة في أفغانستان واليمن، وعدم تكرار مأساة أخطائها السابقة أيضاً.

العدد 1104 - 24/4/2024