بداية الرواية الفلسطينية في العرائض للسلطان محمد

في تاريخ الصهيونية تُذكر حادثة زرنوقة من العام 1913 كأحد الصدامات العنيفة الأولى بين المستوطنين اليهود وبين السكان المحليين العرب. وقد اندلعت الحادثة بين طلائع رحوفوت وبين سكان القرية العربية المجاورة، زرنوقة. وكانت الخلفية هي مواجهة بين رجال منظمة (الحارس) وسكان القرية، ممن سرقوا العنب من كرم كان يعود لريشون لتسيون. وأدت المواجهة إلى مشادة جماعية وأعمال ثأر، في نهايتها أحصي قتيلان يهوديان وواحد عربي.

الطلائع، على عادتهم، كتبوا روايتهم عن الحدث. (ذات يوم، في موسم الحصاد، مر أزعران اثنان من زعران زرنوقة، في العشرين، عبر كروم ريشون لتسيون، وهما يمتطيان جملين محمَّلين، وفي إطار ذلك مدَّا أيديهما إلى قطف بعض من العنب)، وصف الكاتب موشيه سميلنسكي. (أحد الحراس، ابن القدس، لا يزال (أخضر)، خرج نحوهما ولاحظ العربيان أنه ليس بطلاً وهزئوا به، أخذا منه مسدسه بل وضرباه).

ومثل أحداث كثيرة في المرحلة الأولية من الصهيونية، حتى وقت أخير مضى كان للباحثين فقط رواية واحدة عن الحدث، الرواية اليهودية. وأحياناً يمكن أن نجد أيضاً الرواية الرسمية عن الأحداث. ولكن مؤخرا عثر الباحث د. يوفال بن بست، في الأرشيف في إسطنبول على عريضة بعث بها رؤساء العشائر العربية في المنطقة إلى السلطان العثماني، محمد الخامس، تلقي ضوءاً على الجانب العربي من القصة. (نحن سكان القرى المجاورة للمستعمرات اليهودية دران (رحوفوت) وعيون قارا (ريشون لتسيون))، كما عرَّفوا أنفسهم عند طرح شكاواهم. ولاحقاً اشتكوا من أن اليهود (أرادوا أن يأخذوا من صاحبَيْ الجملين ملابسهما ومالهما وجمليهما، ولكن هذين الشخصين رفضا تسليم الجملين وفرا من عيون قارا مع جمليهما، بينما كان كل منهما يحمي الآخر (من أجل إيجاد ملجأ لدى) رجال العدل… اليهود المذكورين أعلاه هاجموا رجال قريتنا، سلبوا ونهبوا أملاكهم، قتلوا، بل ومسوا بشرف العائلة، كل هذا بشكل يصعب علينا وصفه بالكلمات).

ويواصل القرويون الاحتجاج على معاملة اليهود لهم، على حيازة السلاح الممنوع في القرى الزراعية الصهيونية، بل وعلى الرشوة: (من خلال دفعات مالية يفعلون كل ما يروق لهم وكأنهم حكومة صغيرة خاصة بهم داخل الدولة).

عريضة أهالي زرنوقة هي واحدة من آلاف العرائض التي أرسلت من فلسطين إلى إسطنبول في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وتفيد قراءتها بالطريقة التي نظر بها المجتمع القروي العربي إلى الاستيطان الصهيوني في بداية طريقه. كما تفهم منها الفجوات التي لا تقبل الجسر بين المجتمع الاصلي والمهاجرين من أوربا.

فجوة كبيرة للغاية ظهرت في كل ما يتعلق بفهم ملكية الأرض. في نظر اليهود، فإن شراء الأرض من مالكها – في الغالب من مالكي الأراضي الذين لم يسكنوا فيها – نقل كل الحقوق إليهم. في نظر الفلاحين والبدو، فإن مجرد وجودهم على الأرض وفلاحتها على مدى الأجيال منحهم الحقوق. وهكذا مثلاً، كتب في العام 1890 أهالي القرية البدوية الذين فلحوا الأراضي التي تحولت لاحقاً لتكون مستعمرة رحوفوت:

(مؤخراً، الحكومة السامية باعت أرض المكان إلى أناس معينين من بين سكان البلاد. لم نعبر عن أي اعتراض على ذلك لأن المالكين الجدد للأرض عرفوا بوضوح أن المكان مفلوح ومحوز من قبلنا منذ أجيال عديدة… ولكن، بينما نحن في هذا الوضع، بيعت الأرض فجأة إلى مجموعة من اليهود الأجانب (أسرالين) ممن جاؤوا إلى المكان وفي حوزتهم المال… وبدؤوا يطردوننا من الأرض التي سكنا فيها… المزرعة، التي كانت في أيدينا من زمن آبائنا وأجدادنا، أخذها منا بالقوة الأجانب الذين لا يريدون أن يتعاملوا معنا حسب المعايير القائمة في أوساط فلاحي الأرض، وحسب المعايير الإنسانية الأساسية ومعيار الرحمة. باختصار، هم لا يقبلوننا حتى ولا كعمال عندهم). ويطلب البدو من السلطان أن يصدر مرسوماً يسمح لهم بالبقاء على أرضهم أو كبديل يعثر لهم على أرض أخرى.

في مقالة تنشر قريباً في مجلة (كتدرا)، يأتي بن بست بالرواية اليهودية للقصة: حسب اليهود، فإن الأراضي التي اشتريت بوساطة يهوشع حنكين هي بملكيتهم، وكبادرة طيبة للبدو سمحوا لهم بمواصلة فلاح الأرض لفترة ما. (نحن فهمنا أننا بعد أن اشترينا الأرض، دفعنا ثمنها، حصلنا على وثائق الشراء من الحكومة – فإننا أصحاب البلاد، وليس لأحد رأي معنا)، كتب إلياهو لفين أفشتاين، رئيس لجنة مستعمرة رحوفوت في مذكراته: (طلبنا منهم أن يتركوا البلاد وهم ادعوا أنهم استأجروا أرضهم لسنتين وزرعوها فقط مرة واحدة، قبل الصيف، ولهذا يحق لهم أن يزرعوها قبل الشتاء، يحصدوها، وهي عملية تستغرق أيام الصيف، وبعد ذلك يذهبون… حنكين قال لنا إن البدو محقون. وبالفعل تساومنا مع البدو، واشترطنا أن ينقلوا خيامهم من أراضينا. ولكن يمكنهم أن يأتوا ويفلحوا الأرض التي استأجروها، إلى أن يجمعوا منتوجهم من حصاد قبل الشتاء. وهكذا انتهى النزاع الأول بيننا وبين جيراننا بأفضل خير).

وكان بن بست اكتشف العرائض في الأرشيف في إسطنبول، في رسالة الدكتوراه التي كتبها في جامعة شيكاغو عن معاملة الحكم العثماني للسكان العرب. وكانت العرائض وسيلة معروفة لبسط الشكاوى أمام الحكم. ومع تقدم التكنولوجيا واختراع التلغراف وتحسين البريد، تحولت إلى الوسيلة الأكثر انتشاراً. ويقول بن بست إن (هذه مؤسسة إسلامية مع جذور عتيقة جداً، ولكن إذا كان يتعين عليك في الماضي أن تذهب بنفسك أو تبعث بوفد، فقد اكتشف الناس أنه يمكن التوجه إلى البريد وإرسال رسالة، مما زاد جداً حجم التوجهات).

واكتشف بن بست آلاف العرائض من بلاد إسرائيل في الفترة العثمانية، قلة منها فقط تُعنَى بالنزاعات مع اليهود. وكانت المواضيع الأكثر انتشاراً هي الضريبة، تنكيل الموظفين والشكاوى ضد جماعات عربية أخرى. بن بست، الذي يعلِّم اليوم في جامعة حيفا، سينشر قريباً كتاباً يعنى بهذه العرائض.

وكان صاغ العرائض مهنيون عرفوا ليس فقط الكتابة، بل وأتقنوا أيضاً الأسلوب المناسب، وكانت لهم الأدوات الخطابية اللازمة للتوجه إلى الحكم المركزي. وحسب بن بست، فإن هؤلاء الأشخاص أعطوا لأول مرة صوتاً للسكان الذين كانوا شبه صامتين. وخلافاً للمستوطنين اليهود، فقد كان القرويون المحليون في أغلبيتهم الساحقة أميين. وبعد أن دمرت قراهم في العام ،1948 انتشروا في كل صوب، وبقيت شهادات شفوية قليلة جداً عن تلك الفترة. في العقود الأولى من الاستيطان الصهيوني كادت لا تكون هناك صحف عربية في البلاد. بحيث أن العرائض (عملياً الترجمة التركية لها في أرشيف الإمبراطورية) هي الشهادة المكتوبة شبه الوحيدة عن الحياة كما رآها أولئك العرب في فلسطين العثمانية.

وهي تدل على أنه خلافاً لما هو وارد اعتقاده، فإن المجتمع العربي القروي في البلاد كان متبلوراً وذا قدرة. هكذا مثلاً بعد أربعة أيام فقط من الحادثة العنيفة في زرنوقة تمكن عشرات المخاتير من التجمع معاً من أجل التوقيع على العريضة للسلطان، الأمر الذي يشهد على شبكات نقل المعلومات وعلى التعاون بين القرى.

(هذه هي المرة الأولى التي نرى فيها كيف يصفون الأمور من زاوية نظرهم)، يقول بن بست. (لا يوجد هنا موضوع مؤيد أو معارض للصهيونية – هذا ببساطة يظهر كم هو هذا اللقاء مركب، وهذا ما لا يمكن التعرف عليه من أي مصدر آخر).

 

هآرتس 5/11/2012

العدد 1107 - 22/5/2024