أوباما يفتتح رئاسته الجديدة بالتوتير مع روسيا

على الرغم من أن الروس (على المستويين السياسي الرسمي والرأي العام) لم يهللوا هذه المرة لفوز المرشح الديمقراطي باراك أوباما بالرئاسة، إلا أنهم يشعرون ببعض الارتياح حيال هذه النتيجة التي خلصتهم من المرشح الجمهوري ميت رومني ونظرته العدائية التي لم يخفها تجاه روسيا. وقد هلل كثيرون في روسيا لفوز المرشح الديمقراطي باراك أوباما بالرئاسة لأول مرة منذ أربع سنوات ونيف، ظناً منهم أن دخول الرجل إلى البيت الأبيض سينهي حقبة المحافظين الجدد وما حملته من توتر في العلاقات بين موسكو وواشنطن على خلفية سياسات إدارة بوش نحو روسيا، وفي مقدمتها انسحابه من اتفاقية عام 1972 للحد من الأنظمة الدفاعية المضادة للصواريخ وإعلانه بعد ذلك عن مشروع الدرع الصاروخية في أوربا الشرقية. أوباما كان قد تحدث في حملته الانتخابية في أواخر عام 2008 عن ضرورة تحسين العلاقات مع روسيا ورفضه لمشروع الدرع الصاروخية، ناهيك بأنه دخل البيت الأبيض في مطلع عام 2009 في وقت لم تخف فيه روسيا غضبها من سلفه بوش الأب الذي تهرب من توقيع اتفاقية ستارت جديدة بديلة عن ستارت-2.

في تلك المرحلة برز واضحاً سعي أوباما إلى تلطيف الأجواء مع القيادة الروسية، واعتقد كثيرون أن إدارته ستتخلى حقيقة عن مشروع الدرع الصاروخية وستذهب إلى توقيع اتفاقية جديدة للحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية تتضمن فقرة للحد من الأنظمة الدفاعية المضادة للصواريخ. إلا أن ولايته الرئاسية الأولى أظهرت أن أوباما لم يقدم أي شيء من هذا، ولم يتخلَّ عن الدرع الصاروخية، بل جعلها أكثر تطوراً من الناحية التقنية وأكثر شمولية لجهة انتشارها ومجالات عملها. أما اتفاقية ستارت الجديدة التي وقعها مع نظيره الروسي، دميتري ميدفيديف حينذاك، في براغ بتاريخ 8/4/،2010 فلم تكن مثلما تمنتها روسيا، إذ لم تربط الاتفاقية بين الأسلحة الاستراتيجية الهجومية والدفاعية، ولم يحمل نصها ما يقيد نشر الولايات المتحدة لدرعها الصاروخية، مكتفية بالسماح لروسيا بالانسحاب من نص الاتفاقية إن وجدت في الدرع الصاروخية تهديداً لأمنها القومي.

خلاصة القول: لم يطرأ خلال الولاية الرئاسية الأولى لباراك أوباما أي جديد نوعي يسمح بوصف تلك المرحلة بأنها (إعادة تشغيل) للعلاقات الأمريكية-الروسية مثلما يصر كثيرون على وصفها. والمشكلات ذاتها ما زالت قائمة بين البلدين، فالولايات المتحدة ما زالت تصر على الهيمنة الدولية وترفض تقبل روسيا أو غيرها من القوى الكبرى كشريك في صناعة السياسة الدولية. أما الدرع الصاروخية فقد تحولت إلى واقع تُنجزه إدارة أوباما يقابله تهديدات روسيا بنشر أنظمة صاروخية حديثة وإدخال أنواع أخرى إلى الخدمة لمواجهة هذه الدرع. في وقت لم تحقق فيه محادثات روسيا-الناتو أي تقدم بشأن الدرع الصاروخية، الأمر الذي دفع الرئيس ميدفيديف إلى الإعلان عبر خطاب متلفز في مطلع شتاء عام 2011 عن مجموعة خطوات ستتخذها روسيا لمواجهة الدرع الصاروخية، منها (إدخال محطات إنذار مبكر إلى الخدمة القتالية في منطقة كالينينغراد وعلى الفور) وتعزيز دفاعات المواقع الاستراتيجية، وتزويد القوات الروسية بمختلف تشكيلاتها بأنواع من الصواريخ قادرة على تجاوز الدرع الصاروخية، إضافة إلى (اتخاذ التدابير والإجراءات التي تضمن تدمير وسائل منظومة الدرع الصاروخية عند الضرورة). وفي الختام لوح ميدفيديف في ذلك الخطاب بانسحاب روسيا من اتفاقية ستارت-3.  وحتى اليوم ما زالت الخلافات قائمة بين موسكو وواشنطن بشأن الدرع الصاروخية.

الآن وبعد فوز أوباما بولاية رئاسية ثانية، وعلى الرغم من أن النخب الروسية ترى فيه خياراً أفضل من المرشح ميت رومني أو أي رئيس جمهوري آخر، إلا أن هذا لا يعني أن بقاء أوباما في البيت الأبيض يحمل معه الخير أو أي جديد للعلاقات الأمريكية-الروسية. وتدل كل المؤشرات على أن أوباما مستمر في المراوغة حين يحاول الإيحاء بإيجابية تعامله مع موسكو، لكنه يعمل في الوقت ذاته على تضييق الخناق على روسيا والضغط عليها. ففي خطوة أولى منذ فوزه بالرئاسة أعلنت الولايات المتحدة عن إلغاء تعديلات جاكسون-فينينيك الشهيرة، التي تبنتها الإدارة الأمريكية عام 1974 للضغط على الاتحاد السوفييتي الذي اتهمته الإدارة الأمريكية حينئذٍ بقمع الحريات، وبضمن ذلك حرية الهجرة. وكانت هذه التعديلات بصورة رئيسية عقاباً للسلطات السوفييتية التي حدَّت من هجرة اليهود إلى الكيان الصهيوني. وتنص تعديلات جاكسون-فينيك على الحد من التعاون التجاري مع الدول التي تحد من حرية الهجرة. وتسببت هذه التعديلات بتعطيل التعاون التجاري الروسي-الأمريكي في مجالات عدة قبل سقوط الاتحاد السوفييتي وبعده، وحالت دون تحقيق قطاع الأعمال الروسي لأرباح كان بالإمكان تحقيقها لولا وجود هذا الحظر على التعاون التجاري.

لقد قرر الكونغرس الأمريكي إلغاء تعديلات جاكسون فينيك، لكنه سرعان ما ذهب نحو تبني قانون جديد يحمل اسم ماغنيتسكي، وهو عبارة عن قائمة شخصيات سياسية وتجارية واجتماعية ستتخذ بحقها مجموعة عقوبات اقتصادية، وستحرم من الحصول على تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة بسبب انتهاكات لحقوق الإنسان. وتشمل هذه القائمة عدداً من الشخصيات الرسمية والتجارية والاجتماعية الروسية التي تقول واشنطن إنها ضليعة بوفاة المحامي ماغنيتسكي في أحد السجون الروسية.

إن مثل هذه الخطوة تمثل تدخلاً سافراً بالشأن الروسي الداخلي، ولا يبدو أنها تدل على رغبة أمريكية في تحسين العلاقات مع روسيا. وهي مؤشر يؤكد أن التنافس سيستمر بين القوتين العالميتين، وسيشهد فصولاً جديدة ستحمل معها الكثير من النتائج السلبية على الأمن والاستقرار العالميين.

العدد 1105 - 01/5/2024