بعد نيل عضوية (الدولة المراقبة) فلسطين بحاجة إلى تجديد بنيتها السياسية!

شهدت القضية الفلسطينية حراكاً سياسياً لافتاً بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وفرض حالة التهدئة، وبالتالي فوز فلسطين برفع مستوى التمثيل إلى (دولة غير عضو) في الأمم المتحدة ومؤسساتها.. وكان أول الواصلين إلى مدينة رام الله للتهنئة العاهل الأردني عبدالله الثاني من جهة، وللاطمئنان على أن (الوطن البديل) قد أصبح خلف ظهر الجميع من جهة أخرى. وإلى قطاع غزة وصل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، في أول زيارة له إلى الأراضي الفلسطينية منذ خمسة وأربعين عاماً، وذلك للمشاركة في احتفال حركة حماس بذكرى انطلاقتها الخامسة والعشرين من جهة، واستثمار حالة الصمود الفلسطيني في مواجهة العدوان  ولتعزيز دوره وموقعه بوصفه قائداً قوياً لحركة حماس خلال المرحلة القادمة دون منازع من جهة أخرى.

أما ما يعني الشعب الفلسطيني من هذا الحراك فهو تواصل العدوان والحصار على قطاع غزة الذي ترافقت فصوله مع ما يجري من تصعيد لوتيرة الاستيطان في الضفة والقدس وآليات مواجهته وإحباطه.

يقيناً.. لا يزال ديدن الاحتلال هو كسر إرادة الصمود لدى الشعب رغم فشله خلال حرب الأيام الثمانية التي شنها على قطاع غزة.. فالمواجهات تصاعدت في الضفة لتتناغم فعالياتها مع ما جرى في غزة، فاتسعت رقعتها على جميع الحواجز الاحتلالية والبؤر الاستيطانية وجدران الفصل في جميع أراضي الضفة المحتلة.

سعى الاحتلال الإسرائيلي ويسعى إلى تكريس الانقسام السياسي والوطني الفلسطيني، وإذ بالشعب يلتحم ويتوحد في معركة المواجهة، وتتقارب المواقف على مستوى القيادة السياسية، وتندفع باتجاه تذليل العقبات أمام تنفيذ آليات المصالحة.

لقد أراد الاحتلال عبر عدوانه الاستفراد بالشعب الفلسطيني، لكن النتائج كانت عكس ذلك تماماً، حيث الموقف العربي الشعبي المتضامن مع حق الشعب المشروع في مقاومة الاحتلال، والدفاع عن المشروع الوطني الفلسطيني، وإن بحدود لم ترقَ بعد إلى المستوى المطلوب.

وأراد الاحتلال أن يضع العراقيل أمام توجه قيادة (م.ت.ف) لنيل عضوية فلسطين (دولة غير عضو) في الأمم المتحدة، الأمر الذي زاد من إصرار الشعب الفلسطيني ممثلاً بجميع فصائل العمل الوطني على المضي قدماً بهذا الاتجاه، والتأكيد مجدداً ضرورة التمسك بحق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.

 

القضية الفلسطينية

أمام لحظة تاريخية

يقول الرئيس الفلسطيني أبو مازن إن (إسرائيل لا تريد السلام، وإنها لا تريد سوى شراء الوقت وفرض وقائع جديدة على الأرض)، لكن هذا الاستخلاص يحتاج إلى مواقف ومسالك جديدة، سواء على صعيد الفعل من أجل إعلان الحياة والفعالية لمؤسسات (م.ت.ف)، أم على صعيد جديد للعلاقات الفلسطينية – العربية- الدولية. فهذه القناعة بعد فشل العدوان على غزة والفوز برفع التمثيل إلى (الدولة غير العضو) في الأمم المتحدة، ساهمتا في سيادة رأي عام لدى حركة فتح بجدوى فتح حوار مع حركة حماس لمناقشة جميع قضايا الخلاف، والاستعداد للمشاركة في حكومة وحدة وطنية، وذلك من دون اشتراط قبول حماس لمعايير الرباعية الدولية.

إن الإدراك الفلسطيني بأن إسرائيل ليست في وارد السلام، يشير إلى أنه يتعين على حركة فتح أن تعيد تقويم تجربتها في السلطة الفلسطينية، وأن تنظر من جديد في المواقف السياسية التي تبنتها منذ اتفاق أوسلو، وذلك بهدف التوصل- عبر التداول مع القوى السياسية المختلفة، وفي مقدمتها حركة حماس- إلى الإجابة عن السؤال التالي: هل باتت السلطة الفلسطينية عبئاً على النضال الوطني وأهدافه التحررية؟ وإذا كان الجواب بنعم، فالسؤال الآخر هو: هل على (م.ت.ف) حل نفسها والتركيز على عملية تجديد بنية المنظمة واستعادة دورها التحرري، أم الاستمرار في بقاء السلطة، لكن بوظائف خدمية مجردة من أي دور تمثيلي؟! ففي كل الحالات بات مطلوباً البحث والتوافق حول استراتيجية جديدة تجمع بين المقاومة بأشكالها الملائمة كلها، وبين النشاط السياسي الذي لا يحول المفاوضات مع العدو الإسرائيلي إلى فعل واستراتيجية ثابتة بغض النظر عن سياقها الزمني والسياسي.

 

ضرورة إعادة بناء

البيت السياسي الوطني

لن تستقيم المصالحة الوطنية إذا لم يتم إرساؤها على أساس سياسي وطني لا لبس فيه، إذ لم يعد ممكناً مواصلة عملية المفاوضات بينما التوسع الاستيطاني قائم على قدم وساق، لأن في هذا غشاً للشعب أولاً، وخداعاً للعالم ثانية.. كما أنه لم يعد ممكناً الاستمرار في التوهم بوجود فعلي لسلطة فلسطينية، لكن من دون سيادة فعلية. فالسلطة الفعلية مازالت بيد إسرائيل التي تسيطر على الموارد الطبيعية والأجواء والطرق والمعابر والتجارة الخارجية ومختلف مناحي الحياة الرئيسية. علاوة على ذلك لم يعد مبرراً استمرار التنسيق الأمني في ظل مواصلة الاستيطان وجدران الفصل العنصري وفرض الحصارات وتدمير المنازل واعتقال المناضلين. إن وقف التفاوض والتنسيق الأمني يستدعي الاتفاق على استراتيجية واضحة للمقاومة والمفاوضات معاً، وتمنح دوراً لكل مكونات المجتمع الوطنية والحزبية. لكن هذا الأمر لا يعني اختزال الاستراتيجية إلى شكل أحادي ووحيد، أو ترك القرار بشأنه بيد هذا التنظيم السياسي أو ذاك من دون اتفاق وطني.. فالاتفاق الوطني على استراتيجية للمقاومة والمفاوضات هو الذي يحميها من تهمة الارتهان لقوى إقليمية لها استراتيجيتها الخاصة.

إذاً، يترتب على وضوح الأساس السياسي للمصالحة تغييرات في بنية الهيئات السياسية الوطنية، بدءاً من بنية السلطة، وانتهاء بمؤسسات (م.ت.ف).. وما يحتاج إليه الشعب هو سلطة وطنية تعمل تحت السلطة السياسية لـ(م.ت.ف) بعد إصلاحها وإعادة بنائها، وذلك لمواجهة السياسة العدوانية الإسرائيلية القائمة على حشر الشعب في الضفة الغربية بمعازل (كانتونات)، وعلى تكريس الانفصال بين الضفة وغزة وعزل القدس عن كليهما. ومن البيّن أن إسرائيل ستواصل نهج التمييز العنصري ضد الفلسطينيين في أراضي الـ،48 والإصرار على تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني في الشتات.. كما ستواصل العمل بالوسائل جميعها لإيصال الشعب الفلسطيني إلى حالة من الإحباط واليأس والتسليم بالهزيمة.. من هنا حاجة الشعب إلى قيادة موحدة ومؤسسات وطنية جامعة لإفشال المساعي الإسرائيلية، ومن ثم توليد قناعة بأن لا بديل عن المقاومة بكل أشكالها، وبأنه لا خيار أمام الشعب سوى مواصلة النضال من أجل انتزاع حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة بعاصمتها القدس.

لقد أعاد فشل العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، وفوز فلسطين بعضوية الدولة المراقبة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، الانتباه العالمي إلى مركزية القضية الفلسطينية في الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي حاولت الإدارة الأمريكية تهميشه، كما أن عدوانية إسرائيل ومشاريعها الاستيطانية، وسعت إدراك ما تمثله (كدولة) كولونيالية عنصرية.هذا الإدراك هو الذي يفسر هذا التأييد الواسع لـ(عضوية دولة فلسطين المراقبة) في الأمم المتحدة، والحجم الواسع من التنديد العالمي بالعدوان الإسرائيلي، وهذا الكم الكبير من التأييد لنضال الشعب الفلسطيني كما برز في الإجراءات التي اتخذتها العديد من الدول في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وفي تراجع العديد من الدول الأوربية عن شروط الرباعية الدولية في التعامل مع حركة حماس.

علاوة على ذلك، بات مؤكداً أن الحكومة الإسرائيلية الحالية ليست بصدد أي تسويات سلمية، سواء كانت مرجعيتها اتفاقية أوسلو، أم المبادرة العربية، ولهذا لم يبق أمام الشعب الفلسطيني ما يمكن أن يراهن عليه، وإنما بات مدعواً إلى وضع إعادة بناء الحركة الوطنية على رأس أوّلياته، وذلك بعيداً عن تأثيرات المحاور الإقليمية والتدخلات الدولية. كما أنه يتعين على حركة حماس أن تستخلص الدرس وتدرك أن المرحلة السياسية تستدعي منها الانخراط النشيط في تثبيت الأسس الوطنية للبيت السياسي الفلسطيني، والذي لم تستطع من دونه الاستقلال التام عن تأثيرات المحاور الإقليمية، ولا الاستناد إلى بيئتها الوطنية في مواجهة الاستحقاقات القاسية للزمن الوافد.

إن مراجعة المواقف الفلسطينية لمنظمة التحرير وفصائلها كافة، والهيئات التمثيلية للشعب الفلسطيني في هذا المنعطف، وتصويب علاقتها بالحوار العربي والإقليمي، وبمحور المقاومة والممانعة الذي ساندها وعزز حضورها في الساحة الدولية، كفيلان بتحقيق برنامجها الوطني الجامع، وبإيصال الشعب الفلسطيني إلى هدفه الأسمى، وهو بناء دولته المستقلة بعضويته الكاملة في الأمم المتحدة وبعاصمتها التاريخية القدس.

العدد 1105 - 01/5/2024