بعد جولة ديفيد كاميرون وفرانسوا هولاند إفريقيا والأطلسي… استراتيجية جديدة للتدخل!

عكست الزيارة الأخيرة التي قام بها كل من الرئيس الفرنسي هولاند ورئيس الوزراء البريطاني كاميرون إلى الجزائر وبعض عواصم الشمال الإفريقي على التوالي، مدى التحسن الذي شهدته العلاقات الجزائرية – الفرنسية – البريطانية، بعد عملية تحرير الرهائن الغربيين والجزائريين التي جرت مؤخراً في حقل غاز (عين أميناس) الجزائري، والتي التزمت الجزائر عبرها بتحمل مسؤولياتها منفردة.. كما عكست مدى الاهتمام البريطاني والفرنسي بما يجري في شمال مالي من مواجهات بين قوات الحلف الأطلسي (بقيادة فرنسا هذه المرة)، والفصائل المسلحة من (قبائل الطوارق)، بعد أن أعلنت الأخيرة انفصال شمال مالي المعروف باسم (إقليم أزواد)، وبواقع مساحة تقدر ب822 ألف كيلومتر مربع، مما أدى إلى حدوث فجوة هائلة من اللاشرعية في الظهير الجنوبي لمنطقة شمال إفريقيا، وهي منطقة الساحل التي تقع مالي في المركز منها، وتشاد والنيجر شرقاً، وموريتانيا والسنغال غرباً.

 

الممارسات الغربية في شمال إفريقيا

يتجه كثير من المحللين إلى أن انفصال شمال مالي هو رد فعل مباشر لثمانية عشر ألف طلعة جوية لقوات الناتو، أدت إلى تدمير القواعد الجوية الليبية التي كان عبرها يتم السيطرة الجوية على الصحراء الإفريقية. إذ يسعى الغرب إلى بترول ليبيا، وإلى موقعها بوصفه ممراً حيوياً نحو السودان والتشاد، وإلى موقع ليبيا الساحلي، حيث يتمركز الأسطول السادس الأمريكي في غرب الساحل الليبي في طرابلس، بينما تتمركز (الاستخبارات البريطانية والفرنسية) في شرق الساحل الليبي، وتحديداً في بنغازي وطبرق.

وفي نهاية المطاف، أدت ثمانية عشر ألف طلعة جوية للناتو فوق الأراضي الليبية إلى الأوضاع التالية:

1- انفصال شمال مالي المعروف باسم (إقليم أزواد).

2- نهوض (تنظيم القاعدة) في بلاد المغرب العربي، واتساع نشاطه وفعاليته في تجنيد (المجاهدين) وتجارة السلاح والكوكائين التي استشرت وتفاقمت في شمال إفريقيا والقرن الإفريقي.

3- اتساع نشاط حركات المعارضة المسلحة في شمال إفريقيا، والتي غدت تسعى إلى التزود بالرجال والسلاح عبر منطقة الساحل. ومن هذه الحركات المسلحة (حركة بوكو حرام في نيجيريا، وحركة الشباب المسلم في الصومال، وحركة جبريل إبراهيم في دارفور، وحركة بابا لاديه في تشاد).

 

موقف الجزائر من الانفصال

تبلغ حدود الجزائر مع شمال مالي 1200 كم، ويأتي موقف الجزائر من انفصال شمال مالي في إطار إدارة الجزائر سياسياً وأمنياً لملف (الإرهاب). وهي إدارة تتسم بدرجة عالية من الدقة التي تستلزم تحليلاً متكامل الأبعاد لخطورة الملف وحيويته، باعتباره وثيق الصلة بالاستقرار الداخلي للمجتمع والدولة.

وقد نجحت سياسة الجزائر في مواجهة (الإرهاب) في منطقة الساحل الإفريقي إلى حد كبير، رغم ما تبدو عليه من غموض في اجتياز ذلك التناقض الداخلي الذي يمكن أن ينشأ بين مجموع الحلول المطروحة.

ويمكن القول إن السياسة الأمنية للجزائر تتسم بأنها ذات مسارين في مواجهة (الإرهاب):

* المسار الأول (الاحتواء):

تتبنى الجزائر في هذا المسار ثلاثة أساليب تتمثل في:

1- الاشتباك الأمني المباشر مع عناصر (الإرهاب)، وذلك على أرض الإقليم الجزائري.

2- زرع عناصر مخابراتية في صفوف (تنظيم القاعدة) في بلاد المغرب العربي، وذلك لإمكان السيطرة على تحركات هذا التنظيم وتدجين قيادته.

3- التعامل مع (تنظيم القاعدة) في بلاد المغرب العربي بخلفية (البعد الأيديولوجي) تحاشياً لاستفزازه وتحقيقاً للاستقرار الداخلي، وذلك بمنع فتح المجال الجوي الجزائري أمام طائرات الأطلسي دون طيار، لكي لا تدخل الجزائر في المستنقع الأفغاني. كما عارضت الجزائر وجود قوات ل(الإفريكوم) على أراضيها، ورفضت الاشتراك مع فرنسا في العمليات العسكرية على شمال مالي.. كل ذلك لأن الفصائل المسلحة في إقليم أزواد ترى أن الغرب هو عدوها الاستراتيجي.

* المسار الثاني (إبعاد الخصم):

هذا هو منطلق الجزائر من انفصال شمال مالي، فالجزائر ترفض رسمياً انفصال شمال مالي، لكيلا تبدو دبلوماسياً ودولياً أنها تتعارض مع المجتمع الدولي. ولكن هذا الرفض هو (الدهاء السياسي) بعينه، إذ إن منع قيام دولة مستقلة في شمال مالي يزيد من النفوذ الإقليمي والدولي للجزائر بشكل كبير.. إذاً كيف يمكن للجزائر أن تتخلص من شوكة مؤلمة، وبالتالي دفع (تنظيم القاعدة) في المغرب العربي إلى خارج حدودها عبر صفقة سياسية ضمنية تمنحه بعض النفوذ في شمال مالي، أو عبر مشروع حكم ذاتي في الشمال؟ لكن الجزائر لا يمكن أن تسمح ل(تنظيم القاعدة) بأن يتفرد في شمال مالي، لأن الطوارق قوة عسكرية موالية تماماً للجزائر، وتقديرهم كبير لحزب جبهة التحرير الجزائرية.. وهذا التوازن بين قوتين، إحداهما موالية تماماً للجزائر وهم (الطوارق)، وأخرى متعاونة مع أجهزة مخابراتها، يمكّن الجزائر من تحقيق هدفين:

الأول: استقرار الاستثمارات البترولية في شمال مالي ل(الشركة الوطنية الجزائرية- سوناتراش).

الثاني: اكتساب 822 ألف كيلومتر مربع عمقاً استراتيجياً جديداً لدولة الجزائر، يدير هذا العمق الاستراتيجي المؤسسة العسكرية الجزائرية، ودوائر أمنها القومي، بما يحيل الجزائر إلى قوة إقليمية مؤثرة على مستوى المغرب العربي والساحل الإفريقي، بل وإفريقيا كلها.

 

التنافس الدولي حول القارة الإفريقية

إذا كانت الانتقادات التي وجهت لسياسات الحلف الأطلسي، وبضمنه فرنسا وبريطانيا، ضمن العوامل التي دفعت رئيس الوزراء البريطاني كاميرون والرئيس الفرنسي هولاند للقيام بجولتهما في الشمال الإفريقي مؤخراً، فإن التنافس الدولي على موارد القارة الإفريقية كان حاضراً بقوة في ثنايا التدخل الفرنسي- الأطلسي في شمال مالي.

وبالفعل.. فقد أصبحت القارة الإفريقية على رأس أوليات السياسات الخارجية الاقتصادية والدبلوماسية لكل من فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا، وارتفعت التجارة البريطانية- الإفريقية من عشرة مليارات دولار عام 2005 إلى ثمانية وعشرين مليار دولار عام 2010. ومع نهاية عام 2013 ستصبح بريطانيا الشريك التجاري الثالث لإفريقيا بعد كل من فرنسا والولايات المتحدة. ويتزامن هذا الاهتمام الاقتصادي من جانب بريطانيا بالقارة الإفريقية مع اهتمام دبلوماسي بدا واضحاً في عشرات الاجتماعات التي ضمت مسؤولين بريطانيين ونظرائهم الأفارقة، برعاية وزارتي الخارجية والاقتصاد البريطانيتين اللتين افتتحتا (أقساماً إفريقية) داخلها في إشارة ذات مغزى.

وربما يمثل الاهتمام البريطاني والأمريكي المتزايد بالقارة الإفريقية تدخلاً بالطبع في مناطق النفوذ الفرنسية التقليدية. وقد بدا هذا الأمر جلياً في حالة التنافس البريطاني-الأمريكي- الفرنسي، حول دولة جيبوتي ذات الأهمية الاستراتيجية، نظراً لاحتلاها موقعاً متقدماً في منطقة بحرية يمر عبرها ربع إنتاج العالم من النفط، إضافة إلى وجودها على الشريط الاستراتيجي الممتد من الساحل الإفريقي إلى القرن الإفريقي، مروراً بالجزائر ومالي..والذي تسعى واشنطن ولندن وباريس إلى فرض الأمن فيه والسيطرة عليه.. فهل ستصبح القارة الإفريقية محور العلاقات الدولية في القرن الحالي؟

ويمكن إيجاز الاستراتيجية الأطلسية الجديدة- بضمنها البريطانية والفرنسية- تجاه إفريقيا في ثلاثة أبعاد رئيسية: تقوية الدعم الأطلسي في المجالات الأكثر أهمية. وزيادة الوجود العسكري لقوات الحلف في مواقع استراتيجية في القارة الإفريقية. واتباع الحلف لمسار أكثر كفاءة في التعامل مع القضايا الإفريقية الأكثر سخونة.. وفي هذا السياق يمكن فهم جولة رئيس وزراء بريطانيا كاميرون والرئيس الفرنسي هولاند إلى دول شمال إفريقيا مؤخراً، على أنها استعراض للقوة وشرعنة للتدخل.

العدد 1105 - 01/5/2024