جمهورية مصر بين استكمال الثورة داخلياً والإدارة بالأزمات خارجياً!

بات واضحاً أن ما شهدته وتشهده جمهورية مصر بعد ثورة كانون الثاني 2011 من تحولات سياسية واجتماعية لم يوصل الثورة إلى شاطئ الأمان الذي رسمته، سواء لجهة إقامة التعددية والديمقراطية الحقيقية والعدالة الاجتماعية، بعيداً عن الممارسات الاستبدادية الأحادية، أم استقرار أوضاع المؤسسات الرسمية.. وحتى آلية التصويت التي أجازها حزب الحرية والعدالة الحاكم على الدستور وإقراره، أسهمت في تعميق الانقسام السياسي بين مكونات ثورة كانون الثاني، ولم تفلح جميع جلسات الحوار الوطني التي أجرتها وتجريها مؤسسة الرئاسة، في ردم حالة الانقسام التي دخلتها البلاد، وخاصة مع تحفظات الطرف الأبرز في المعارضة الممثل ب(جبهة الإنقاذ).

 

انقسام يستحضر سياسة (رأب الصدع)

المشهد الانقسامي الآخذ بالتفاقم، واقتراب موعد الانتخابات البرلمانية، دفع بسياسة (رأب الصدع) إلى الصدارة، عبر مجموعة من المحاولات والمبادرات، سواء كانت حزبية أم مؤسساتية رسمية، خاصة في ضوء التعديلات الأخيرة التي طالت حكومة هشام قنديل.

محاولات (رأب الصدع) ترددت أصداؤها في الفضاء السياسي والاجتماعي، حينما تبنّى حزب الحرية والعدالة مبادرة الرئيس محمد مرسي للحوار مع جميع مكونات الطيف السياسي في البلاد.. وترك حرية التحرك فيها لقيادات الحزب الحاكم، وهو ما ترجم في العاصمة المصرية القاهرة وبقية محافظات البلاد.

دعوة الرئيس مرسي لم تجد صدى كبيراً لها في ظل حالة التنافر الكبيرة بين حزب الحرية والعدالة وبقية التيارات اليسارية والليبرالية على المستوى السياسي والعقائدي، الأمر الذي انعكس على حوار القاهرة الأخير الذي لم تحضره سوى تيارات إسلامية وبعض رموز التيار الوسطي بصفة شخصية، فيما عزفت الغالبية العظمى من التيارات اليسارية والليبرالية عن المشاركة، خاصة أن المبادرة لا تتعدى (الترف النظري)، ولم تُترجم صوب أطراف (جبهة الإنقاذ) الشريك الفعلي في ثورة كانون الثاني.

وفي السياق ذاته جاءت دعوة الشيخ السلفي محمد حسان التي تمخضت عن لقاء بقيادات جبهة الإنقاذ، وعلى رأسهم عمرو موسى وحمدين صباحي والسيد بدوي رئيس حزب الوفد، فيما غاب عنها محمد البرادعي وعمرو حمزاوي. وعقب اللقاء أكد بعض من حضره أمام وسائل الإعلام أن (اللقاء جاء لإيضاح وجهة نظر كل تيار في ظل حالة التجاذب والاستقطاب الحالية)، ولتأكيد فكرة أنه (ليس ثمة عداء على خلفية دينية)، موضحين أن (اللقاء لم يتطرق إلى تحالفات حزبية أو انتخابية جديدة).

هذا المشهد العام الذي يسيطر على مصر، والذي غلف بعبارة (رأب الصدع) جاء ليكشف عن جملة من الأمور، في مقدمتها أن ثمة استقطاباً شاملاً في أروقة المجتمع وثناياه ومكوناته، ليس على خلفية سياسية وعقائدية فحسب، بل أيضاً على خلفية المصالح الضيقة داخل المؤسسات البيروقراطية التي يديرها حزب الحرية والعدالة الحاكم، نتيجة لاهتزاز شبكة المصالح الداخلية بفعل التداعيات السياسية وتبدل ميزان القوى.

كما رأت الناشطة في شؤون المواطنة السيدة فريدة النقاش، أن دعوة (رأب الصدع) هي على المستوى السياسي مناورات انتخابية يسعى إليها التيار الإسلامي بعد تراجع شعبيته، مفسرة مقابلتها بالفتور واعتراض التيارات اليسارية والليبرالية وبعض قيادات جبهة الإنقاذ عليها هو (نضج سياسي وتعلّم للدرس).

أما السيد عمرو نبيل، الأمين العام المساعد لحزب الإصلاح والنهضة، فطالب بالتفريق بين دعوة الرئيس مرسي بوصفه رئيساً للجمهورية، وبين مبادرة الشيخ السلفي محمد حسان، وبين دعوة حزب الوسط.. فالأول هو ممثل لحزب في السلطة، والثانية لمصلحين اجتماعيين بوصفهم رجال دين مؤثرين في المجتمع، بينما دعوة حزب الوسط هي مبادرة سياسية واضحة. لافتاً إلى أن إدارة الدولة فيها مشكلة كبيرة، مرحباً بأي دعوات يمكن أن تعيد الجميع إلى القواسم المشتركة حتى تُستكمل أهداف الثورة.. لكنه شدد على أن أي محاولة للتوافق مع (الفلول أو التفريط والمساومة على الثوابت الوطنية وحقوق المواطنة والدولة المدنية)، هي دعوة إلى ثورة مضادة وليست للتوافق أو (رأب الصدع).

وقد عزا العديد من المحللين الاستراتيجيين هذه الدعوات وخفوتها فجأة إلى الرغبة في احتواء حالة الغضب العارمة في ميادين المدن المصرية، ولاسيما بعدما وصل الحوار الوطني الذي تجريه مؤسسة الرئاسة إلى طريق مسدود، فيما يتعلق بقانونَيْ (ممارسة الحقوق السياسية وانتخابات مجلس النواب)، بعدما تجاوز وخالف مجلس الشورى كثيراً من البنود الرئاسية فيما توصل إليه المشاركون في الحوار.

تأتي هذه التطورات الداخلية مع تعرض حزب الحرية والعدالة الحاكم لحالة كبيرة من التراجع في الشعبية، الأمر الذي لم يوفر زخماً شعبياً لهذه المحاولات والمبادرات، لتبقى حالة التفتت والتشظي على حالها داخل المجتمع المصري.

 

الإدارة المصرية للأزمات الخارجية

بعد قيام الثورة، تلقّت مصر وعوداً بمساعدات سخية من عدد من الدول العربية والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي، ولكن بعد مرور عامين على الثورة، أعلن رئيس الوزراء د. هشام قنديل في تصريح لافت، أن مصر لم تتلق أياً من المساعدات الموعودة، باستثناء 500 مليون دولار من السعودية.. وقد أثار هذا الإعلان ردود فعل داخلية واضحة، فقد فُسّر على أساس أن الدول العربية والغربية التي وعدت بتقديم مساعدات قد أحجمت عن ذلك، نظراً لعدم الاستجابة لمطالبها بشأن أسلوب التعامل مع (فلول النظام السابق)، كما أثير تفسير آخر، فحواه أن هذه الدول أحجمت عن تقديم ما وعدت به بناء على نصيحة أمريكية أو ضغط أمريكي، وذلك حتى يمكن التحكم في مسار الثورة ومستقبلها.

ويمكن رصد عدد من الملاحظات بشأن طريقة إدارة حزب الحرية والعدالة لهذه الأزمات التي واجهتها مصر خارجياً بعد الثورة، ومنها:

1­ تبنّت الإدارة المصرية الحالية أسلوب (الإدارة بالأزمات)، إذ انفجرت بعض الأزمات دون أن تكون مستعدة للتعامل معها، كما هو الحال بالنسبة إلى الحديث عن المساعدات التي وعدت بها مصر، أو إلغاء اتفاقيات كامب ديفيد.

2­ أدركت الحكومة المصرية وجود محددات داخلية وإقليمية ودولية لا يمكن تجاهلها في إدارة الأزمات التي واجتها مصر، خاصة مع الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران، لاسيما أن معظم الأزمات مع هذه الأطراف لها صلة بالاتجاه نحوتغيير توجهات السياسة الخارجية المصرية، وهو ما بدا واضحاً في إدارتها للأزمات مع هذه الدول بالاتجاهات المختلفة.

3­ تتعرض الإدارة المصرية لضغط يومي ناتج عن حالة الفوران الثوري لإحداث قدر من التغيير في توجهات سياستها الخارجية، كما هو الحال بالنسبة لاتفاقيات كامب ديفيد والصراع العربي­ الإسرائيلي، وقضية المعونة الأمريكية المشروطة للقوات المسلحة، والسياسة المصرية تجاه قطاع غزة وضرورة فك الحصار عنه، وإنجاز المصالحة بين حركتَيْ فتح وحماس.. إلا أن الظروف الموضوعية، وربما الذاتية، لم تساعد على إحداث التغيير المنشود، مما أدى ويؤدي إلى تفاقم بؤر الأزمة القابلة للتصاعد.

4­ افتقدت الإدارة المصرية للأزمات الخارجية إلى رؤية استراتيجية للتعامل معها وحلها، وكذلك الكفاءة فيما يطلق عليه إخراج المواقف المعبرة عن (حل للأزمة)، سواء في حالات التصعيد أم التراجع، الأمر الذي له مردوده السلبي على الرأي العام الداخلي.

5­ عند تحليل الإدارة المصرية للأزمات الخارجية، ينبغي الأخذ في الحسبان الأساليب التي اتبعتها الأطراف الدولية والإقليمية الأخرى في إدارة هذه الأزمات، والعوامل التي حكمت متابعتها لهذه الأساليب، ومدى استمرار تأثيرها، بحيث يمكن وضع رؤية استراتيجية متكاملة لإدارة أزمات السياسة الخارجية، وتحديد المحددات التي يمكن أن تواجهها، ووضع السيناريوهات المناسبة للتعامل مع ما ستواجهه مصر من أزمات في إطار سعيها لإحداث تغيير في توجهات السياسة الخارجية في مرحلة ما بعد ثورة كانون الثاني 2011، تستعيد بمقتضاها مصر دورها الإقليمي والدولي الفاعل والمؤثر، الأمر الذي لا يبدو واضحاً في ظل إدارة حزب الحرية والعدالة.

ويمكن القول إن الإدارة المصرية للأزمات الخارجية في مرحلة ما بعد الثورة قد اتسمت بقدر واضح من البطء والارتباك، وعدم تحديد جهة تختص بإدارة الأزمة، الأمر الذي كان واضحاً في العديد من الحالات، مما أدى إلى تفاقم بعض الأزمات دون مبرر، ناهيك بالغياب الواضح لدور وزارة الخارجية في العديد من الأزمات التي تدخل صلب اختصاصها، وتحركها في الوقت الضائع، الأمر الذي أدى إلى تفاقمها، كالأزمة مع إسرائيل، وفك الحصار عن قطاع غزة، وإنهاء حالة الانقسام الفلسطيني­ الفلسطيني، وإنجاز المصالحة الوطنية بين حركتَيْ فتح وحماس.

وموقع مصر في رئاسة قمة التعاون الإسلامي، ودورها العربي المحوري، يحتم عليها أن ترتب أوراقها الداخلية سريعاً، وتلبي مطامح الأكثرية الشعبية التي تحملت عبء تنحية النظام السابق، وتقيم حكومة شراكة حقيقية بعيداً عن التجاذب والعصبيات والحسابات النفعية الضيقة، كي تتمكن من لعب دورها العربي والإقليمي الفاعل.

العدد 1105 - 01/5/2024