لوحات الفنانة ليلى نصير: ترجمات ذاتية معبرة عن أوجاع الإنسان العربي

مما لاشك فيه، أن الفنانة التشكيلية السورية ليلى نصير تُمثل في ذاتها الشخصية وابتكارها الفني حالة استثناء في الحركة التشكيلية السورية بعامة، والأنثوية بخاصة. فهي لحن ثقافي تشكيلي وأدبي متعدد القسمات، تعزف تقاسيم ابتكارها على مفردات الوعي الإنساني المتناغمة مع أحاسيسها المنفعلة على الدوام بهموم الناس، والمعبرة عن حالات وصف سرد مكتوب ومرسوم لأحزان مقيمة. وهي المرتسمة تشكيلياً في مدارات خطوطها وملوناتها المتداعية ببساطة الحركة الخطية والشكلية المتبعة في قضم المساحات المستوية واحتوائها لتحيلها إلى تضاريس حفرياتها الملونة فوق سطوح خاماتها المستعملة. ترسم ملامح الوجوه التي تستحضرها من معين الأنا الشخصي العاكس للأنا الجمعي المجتمعي.

 ويجد المتلقي لذاتها الشخصية مُتسعاً لوصف وهي حاضرة في لوحاتها ومرصوف بيانها التشكيلي، ومتناغمة مع تقنيات شخوصها المتناثرة في لوحاتها، كمفردة تشكيلية معبرة عن شخصها صراحة أو مواربة برمزية القول التشكيلي المتاح. ملاذها التقني متعدد الصنائع، موزع ما بين منهج دراستها الأكاديمية كأول سورية دارسة للفنون التشكيلية في منحة تعليمية في كلية الفنون الجميلة بجامعة القاهرة، وتخرجها في قسم الرسم والتصوير عام 1963. رموزها وخطواتها وملونات شخوصها لا تُفارق وحدتها العضوية الفنية الجامعة، التي ألفت فيها خصوصية بحثها وتجريبها واشتغالها التقني الموصولة بخبراتها ودربتها ومقدرتها على التأليف والتوليف الشكلي، وعلى تطويع أدواتها طوال أكثر من خمسة عقود من الزمن. بقيت مُحافظة على خطها الشكلي وأمينة لخصائصها التقنية المتعددة الصنائع، ومُنحازة لشخوصها المأزومين والمهمومين والمتوالدين من معايشة ليوميات الحزن العربي في سورية وفلسطين ولبنان.

 ثلاثة مدارس فنية شكلت حاضنة طبيعية لفنها: الانطباعية التعبيرية، التشخيصية الحسيّة، التعبيرية التجريدية، مسكونة جميعها بالرمزية والإحالة الدلالية. واللوحة لديها، أشبه بقطعة موسيقية متناسقة المقامات البصرية، والمُعبرة عن منولوج داخلي للفنانة، تئن تقنياتها تحت وطأة حدسها الانفعالي بالحدث، كصدى روح ونفس مهمومة بلحظات الحزن العصية على الصمت.

 لوحاتها مفتوحة على بكائيات العرب المُستدامة، مُتدثرة بملامح آدمية غارقة في الكآبة والحزن، وكأنها مُستلبة للتو من لحظات فرحها وآدميتها أيضاً. تغوص في غواية الألم وحكايات الطفولة الهاربة، وعبث السنين وتغوص حسياً في مجاهلها. تسبر حفريات الأسطورة المرتسمة في جغرافيا الوجوه، وتضاريس الزمن العربي العاثر. وحركة الأجساد الشكلية الراقصة على مذبح قربانها الأنثوي، مُعلنة خسارتها كأنثى أمام انتصار العالم الذكري وسطوته، في تعبيرات حسيّة قريبة من مجاز الوصف البصري. مُلونة بتفاصيل الحكاية الشخصية التائهة في دروب الألم، والشعور الشخصي الصادق بالأشياء، وبمعاناة الآخر الإنساني في الضفة الطبقية المسحوقة. مصوغة بتعبيرات تشخيصية حركية، متناسلة من تعبيرات الوجوه العربية المقهورة، وأصحاب العاهات الجسدية، وذوي الأمراض النفسيّة، والمُعذبين في الأرض العربية المُقطعة أوصالهم، إثر مجزرة صهيونية هنا، ومذبحة هناك.

 تخوض الفنانة في نسج مضامين لوحاتها متعة التجريب في مجاز القول البصري السابح في قوارب قوس قزح، ودائرة ملونات نيوتن التشكيلية، بتقنيات التصوير الملون الزيتي والأكرليك، إضافة إلى تنويعات شكلية بقلم الرصاص. لا تُشبه فيها أحداً إلا ذاتها الفنية الممزوجة بحسها الإنساني. تنسجها مقامات بصرية مُحملة بصوفية اللون، وصخب الخطوط المتآلفة قسوة وليونة وتوازناً وتداخلاً في جميع الجهات.  تسكن مفرداتها في جداول شكلية متناثرة فوق سطوح الخامات المستعملة، في عراك تقني وموضوعي مُبرر متعدد المدارس والاتجاهات الأكاديمية الحديثة والمعاصرة، والتشخيصية التعبيرية التأثيرية المُتسربة في حكايات مُستعارة من وحي حدس وذاكرة بصرية حافظة، ما زالت عامرة بمساحات الحزن الشخصي الدفين، المنثور عبقه في جميع شخوصها المأزومة، وأجساد بنات جنسها المرصوفة فرادى وجماعات في متواليات الكتل الشكلية المتآلفة، تعكس المستور من النقاط المخفية في شخصية الفنانة، وترصد صدق اللحظات التعبيرية وملكة الموهبة وحُسن الصناعة. وطريقتها في رؤية الأشكال والأشياء والشخوص، كلون تشكيلي متفرد في واحة الحركة الفنية التشكيلية السورية. تجمع في لوحاتها سمات وخصائص الريادة التشكيلية ما بين بنات جنسها، وهي بحق من الأصوات النسائية المنحازة بقوة إلى الأنثى في جميع مُبتكراتها التشكيلية والشعرية.

العدد 1105 - 01/5/2024