نازح بين ليلة وضحاها

لم تعد المأساة السورية خافية على أحد، هي مأساة كل من في سورية باختلاف جنسياتهم وأعمارهم وأجناسهم، ففي ليلة وضحاها قد نتحوّل إلى نازحين أو لاجئين.

المأساة تتكرّر في سورية كل يوم، وقد تعاد الكرّة للأسرة نفسها أكثر من مرّة، وهذا ما حدث مع الكثيرين ممن نلتقيهم، نزحوا من حمص إلى الست زينب، ومن الست زينب إلى القابون، ومن القابون إلى زملكا، ومن زملكا إلى المخيم.. وهكذا تستمر دائرة النزوح والعنف المتراكم المتكرر، هذا العنف الذي هو صنيعة القهر والألم والفراق.

المدارس تعجّ بالوافدين إليها من بيئات مختلفة فهي تجمع بين متوسطي الحال والفقراء، تجمع بين العاملين والعاطلين عن العمل، هي تجمع بين أديان وطوائف ومناطق وجنسيات وأجناس مختلفة، وهم مضطرون للعيش المشترك فيما بينهم، يتقاسمون ليلهم ونهارهم، ألعابهم وكتبهم، ملابسهم وطعامهم. في هذه المدارس التي أشبعت بضحايا القتل والترهيب أشبعت أيضاً بمشاكلها الجديدة، برغم الجهد الذي تبذله الجمعيات الخيرية وبعض المنظمات والمؤسسات، إلا أنها لن تكفي ولم تعد تكفي. فالمأساة لم تنتهِ بعد، بل هي تتفاقم وتصبح أشد سوءاً من ذي قبل. هؤلاء الأطفال الذين عملت بعض فرق الدعم النفسي على إعادة تأهيلهم، تعاد كرّة النزوح والخوف و والرعب مرّة أخرى ليشتّد أثر الصدمة عليهم بانتكاسة قد لا تفيد معهم مرّة أخرى أية طرق للتأهيل والدعم.

الحدائق كانت ملجأً، أيام الصيف تفصل العائلات فيما بينها بشراشف وأغطية مما توفر لديها، لتنام تحت ضوء القمر تُقيتُ نفسها بما يصل إليها من المواد الغذائية، وتلبس مما جادت أيدي الخير.. أما في فصل الشتاء فلم تعد الحدائق مكاناً يمكن العيش فيه، ورغم ذلك نرى أطفالاً وأسراً تلتحف البرد والألم، يتراكضون حول المارّة الذين ربما هم نازحون في مكان آخر.

الجوامع، الأديرة، المدن الرياضية… إلخ، كل تلك الأمكنة أصبحت ممتلئة ولن تقوى على تحمّل المزيد، بل الكثير من الجمعيات الخيرية نفذ كل ما لديها تحت وطأة الضائقة المادية التي ألمّت بالجميع.

بين ليلة وضحاها ستكون أنت وأنا وكلنا نازح أو لاجئ، كلنا اليوم نعيش قلقاً من انعدام الكهرباء أو الماء أو الغاز أو التدفئة، نعيش قلقاً من المرض أو الجوع أو البرد أو التشرد. شعور ساهم في أننا كبرنا عشر سنوات على الأقل، أصبحنا نشعر بالشيخوخة المبكّرة، نتلمّس تجاعيدنا وشعرات رأسنا البيض، في إحدى الصرخات على شاشة التلفزيون قالت إحدى السيدات وهي تبكي (لقد كبرنا عشر سنوات في هذين العامين، ألا يكفي كل ما حدث، لقد تعبنا هلكنا نريد حلاً). في تهدّج صوتها وبكائها سمعنا بكاءنا وتلمّسنا وجعنا الذي يجمعنا كلّنا.

نعيش كل هذا القهر يومياً، وبدلاً من الوصول إلى حلول توافقية، يبتعد الطريق أمامنا أمام واحات السراب القادمة، من مصالح دوليّة وأنظمة عالمية. آخر من تراه الشعوب لا بل لن تراه أبداً فهو خارج حساباتها.ليس الناس أعداداً ولا حالات، إنهم من لحم ودم، إنهم من روح تتراكم فوقها الهموم والمخاوف والأوجاع، لتثقل فتتحوّل إلى وحش كاسر، لتخرج من بين هؤلاء الناس الذين يعانون ذلّ القهر كل يوم، المزيد من أمراض ومشاكل المجتمع، سفاح القربى،الاغتصاب، زواج الأطفال، العنف الزوجي، الطلاق، عمل الأطفال، التشرد، السرقة، الاحتيال، القتل، الإجرام بجميع أنواعه.. لتخرج المزيد من الأمراض الجسدية نتيجة البرد ونقص الغذاء والخوف الذي بدأت بعض الإحصائيات تشير إلى تزايد سكري الأطفال والشباب والتبول اللاإردي لدى الأطفال والاكتئاب عند الأطفال والكبار. هذا عدا الأمراض الجلدية والهضمية وغيرها من الأمراض التي يخشى أن تتحوّل إلى أمراض دائمة يصعب الشفاء منها…وهنا لم نذكر بعد عدد المعوقين الجدد ممن بترت أطرافهم، أو شوّهت أجسادهم أو أصيبوا بالعمى أو بارتجاج بالدماغ، والأيام القادمة ستحمل تفصيلاً أكثر دقّة بالأرقام والصور.

ما الحلّ إذاً..؟ لقد أنهك الناس، المساعدات شحّت، الإمكانيات تضاءلت، والاحتياجات تزداد وتتوسع لتصل إلى نقطة اللاحل. لكن التساؤل المطروح اليوم: هل يصعب على الحكومة والقوى المتصارعة أن تبقي أمكنةً آمنة بعيدة عن كل هذه الصراعات؟ ألا توجد تجارب لدول سابقة استطاعت أن توفّر الأمان لمن هم خارج نطاق الاقتتال؟ على الأقل تحمي المسنين والأطفال والمرضى والمعوقين؟ على الأقل تفي بالتزاماتها وتعهداتها.

العدد 1105 - 01/5/2024