التسامح وجبر الضرر… ثقافة جديدة تبحث عن طريقها

أظهرت الأزمة التي يشهدها المجتمع السوري منذ ما يقرب من عامين ما يعانيه مجتمعنا من مشاكل وما يحويه من نوازع أنانية، عززها العنف الذي انتشر في الشارع السوري، فنتج عن ذلك حالات من التعصب والانغلاق، وحالات من الهيمنة بأنواعها المختلفة، وعلى رأسها السعي للهيمنة الفكرية. ما ولد شرخاً في بنية المجتمع، وأفسد مناخ التعايش بين مختلف التيارات الفكرية والعقائدية وحتى الدينية.

وأبرزت الأزمة قوى سياسية جديدة متعارضة فيما بينها وذات مصالح اقتصادية متباينة، فبات كل تيار يسعى لبسط نفوذه وتعزيز هيمنته على الآخر في كل المجالات، رافعاً شعار إلغاء الآخر عن طريق تحجميه وتهميشه، سعياً إلى إقصائه وتدميره، ما ولد ردود أفعال أكثر من سابقتها، متخذة من العنف وسيلة ما أدى لنتائج كارثية نشرت دموعاً ودماً وأمواتاً وأشلاء وأرامل ومشردين ومعوقين وقاصرين. فاغتُصبت ذاكرة الوطن وكنوز آثاره ونهبت خيراته وغيب حاضره.

وأمام هذا التطرف المنتشر والتعصب الأعمى وما أدى إليه من قتل وتدمير وتجاهل للقيم الإنسانية؛ وانطلاقاً من مسؤولية الهم المعيش في محاولة بناء ثقافة سورية جديدة لسورية، أمسى رفع شعار التسامح والتوافق خطوة مهمة في وأد البؤر المشتعلة والمتناثرة على طول البلاد وعرضها، مع السعي لنزع فتيل المواجهات الدموية التي تخلف الدمار والأسى وتصبغ طرقاتنا بدماء إخوة في الوطن يدفعون حياتهم دون أن يستفيد منها أحد. فبات من واجبنا أن نسعى جميعاً إلى مد جسور التحاور ونعمل على إيجاد قنوات للتفاهم وسبل للتواصل، بديلاً من لغة السلاح، ونعمل على ترميم الشرخ الاجتماعي الذي ولدته الأزمة وأدى لتصدع المجتمع، مولداً خلافات بين الإخوة لاختلافات زرعها الأفرقاء.

فماذا سيكون حال المجتمع الذي تربى على صور الدمار وأصوات الانفجارات ورائحة البارود؟ وماذا سيكون رد فعل من أضحى يعيش متنقلاً بين حدائق المحافظات وطرقاتها بانتظار مساعدات من هنا أو هناك، إضافة إلى انتشار الثقافات المعارضة التي تعقد الندوات والمنتديات وتطلق التصريحات بالوعيد والتهديد؟! فالقاسم المشترك لتجاوز ما سبق أن نطلق ثقافة التسامح والتوافق، التي يجب أن يتجاوز مفهومها قبول الآخر، إلى العمل معه لبناء المجتمع والدولة في سورية. فهل يمكن أن تؤمن مثل هذه الثقافة السياسية الجديدة (التسامح والتوافق) من خلال المؤسسة السياسية على صعيد الحكومة، في وقت يدعو فيه البعض إلى إعلان قانون الطوارئ من جديد!؟

لماذا يعد الكثيرون ثقافة التسامح والتوافق إشكالية؟ ألأن عالمنا العربي عامة والسوري خاصة بأطيافه ومكوناته الشرقية لم يصل بعد إلى حد القبول بالتسامح كممارسة؟ وما يقال عن ثقافة التسامح هو لمجرد التأثير وليس التغيير؟ إذ اغتصبت السياسة التعايش والتسامح على امتداد التاريخ العربي والإسلامي، وعلى مرأى من التدين أحياناً، وبمباركة الدين أحياناً أخرى.

فلنعمل على إطلاق مثل هذه الثقافة التي تعمل مع الآخر، ولا تصادره كما جاء في سورة يونس/99 زولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلُّهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنينس، وذلك من خلال إقرار كل طرف مهما كانت سلطته ونفوذه، بوجود الطرف أو الأطراف الأخرى، وضمان حق الاختلاف، وحرية التعبير، واحترام الرأي أو الاتجاه المغاير، وحماية الحقوق المشروعة والحريات الأساسية للجميع.

والتسامح لا يعني أن تتنازل الأطراف عن حقوقها بل يعني أن تتوافق فيما بينها لتصل إلى فكرة تلتقي معها الأحزاب والفرق والتكتلات بما يخدم الوطن ككل، مع المحاسبة وجبر الضرر والتعويض والتغيير في أسس وقوانين قد تكون معرقلة لهذه العملية.

إننا نطمح إلى مستقبل يسوده التسامح والتوافق وقبول الآخر والتعايش معه.. مستقبل نعمل مجتمعين على بناء لبناته الأولى بوساطة ثقافة سياسية واجتماعية، وثقافة تعدُّدٍ لا تفرُّد متغلبين على كل نزعة أنانية ضيقة.. مع الاحتفاظ بالتمايز والتميز لكل فرد ومجموعة.

العدد 1105 - 01/5/2024