حوارات ما بعد مرحلة التهميش

وجدت الأوطان والأنظمة من أجل الشعوب، وتطورت هذه الأنظمة لأجل الشعوب. وقامت الثورات لضمان حقوق الشعوب. حقوق الشعوب هذه التي لم تعد مجهولة من أي جانب أو منظمة لحقوق الإنسان في العالم. وبرغم كل ذلك فكثير منها مبادئ نظرية. والواقع هو هتك لكل هذه المبادئ. كما حال كثير من الشعوب في الوقت الراهن. وحال شعبنا العربي السوري. الشعب السوري الذي فقد الأمان فجأة دون سابق إنذار أو توقع، وظُلِمَ وعانى لمجرد أنه حلم بالتطوير والتغيير، والذي تشتت فكرياً في البدء، ونزف وتشرد فيما بعد، إلى وصوله إلى حالته اليوم. وهو واجهة هذه المعمعة الدموية الموجعة والقذرة في تدبيرها.

الشعب هو نفسه، فقسم منه خرج إلى الشارع يطالب بالتغيير، وتبنته أطراف تكلمت بلسانه وعن حاله. والقسم الآخر وقف بوجه الحراك لأسباب عديدة أهمها المؤامرة من وجهة نظره ونظر الأطراف التي تكلمت بلسانه أيضاً. فشئنا أم أبينا فإن الحراك قام به الشعب السوري، وشئنا أم أبينا فإن أطرافاً سورية وقفت ضد هذا الحراك، ظناً أن هناك أهدافاً ومصالح ومؤامرة لزعزعة الوضع السوري. إذاً فالحراك والتصدي له قام به الشعب، وتبنت هذا الشعب أيديولوجيات معينة. ومع اشتداد وتعاظم خطر الأزمة على الوضع السوري، فمن من هذه الأطراف يظهر تبنيه للشعب حالياً؟

 أصبحت معلمة المدرسة والموظف في قطاعات الدولة والمواطن المتوسط الدخل أو ذو العمل الحر الذي كان دائماً مهتماً بأمور عمله وعيشه، مضطراً حالياً إلى التحليل والتفكير والتساؤل حول ما يجري، ونقد تهميش الأطراف السياسية للشعب. حتى إنه بدأ يتأكد بعد الملاحظة أن بعضاً من مقابلات السياسيين والمفكرين التابعين للطرفين يضع ويذكر مصطلح الشعب في أغلب الجمل عنوة على المعنى، وبدونه يصح المعنى أكثر إذا ما قورن واقع الأزمة بالتمنيات السياسية والأحلام بالحلول السلمية التي أصبح يرويها الطرفان.

وتستمر مبادرات الحوار بالانبثاق مبادرة تلو الأخرى، بقالب جديد بعد آخر، بحلة نظرية أجمل، بشحذ لأماني الشعب أكبر، وباستبشار أكبر. وتخبو المبادرات، مبادرة بعد أخرى، مع خراب جديد بعد آخر، ودم ونزيف أكثر، وخيبة لأماني الشعب وألم أكبر، واستسلام آخر.

يأس وإحباط من الشعب تجاه مبادرات الحوار البربرية العديدة التي تهمشه بمجرد تهميشها للطرف الآخر، هذا الطرف الآخر على سلبياته أو وطنيته يجب أن يؤخذ بالحسبان، مادام يشكل طرفاً في استمرار الأزمة، وبالتالي استمرار النزيف. كلٌ يفصِّل حواراً على مقاييس مصلحته وضمان بقائه واستمراره. كلٌ يتاجر بدم الشعب الذي وعى وعياً كبيراً مقارنة بما مضى بأن مبادرات الحوار اللامنهجية التي قامت حتى الآن، تهدف إلى استمرار الأطراف السياسية كلها بلا استثناء بلعبة المصالح. ولم يبقَ طرف يمثل الشعب. فالوضع الراهن المعقد الدموي فرض على الشعب أن يصبح بلا موقف لفترة ما حتى يرى نتيجة عمل الأيديولوجيات التي بذل نفسه لأجلها، ماذا ستفعل لأجله؟ دون أن يبرر لها، فهو يريد أن ينقذ نفسه، وأن يرى نفسه بالنتيجة شعباً حراً، لأجله تقام الأنظمة والثورات لا من أجل أي مصالح أخرى.

العدد 1105 - 01/5/2024