من الصحافة العربية العدد 579

لماذا يكرر السوريون العار العراقي؟

الواضح الآن أن تدخل الحلف الغربي – الخليجي في الوضع السوري بات علنياً، وأن جزءاً كبيراً من المعارضة لا يزال متواطئاً مع هذا التدخل، ويكافح من أجل استمراره. إن العاقبة الأخطر على الإطلاق لتعاون المعارضة السورية مع الحلف الغربي – الخليجي، والماثلة الآن أمام عيوننا، هي أن هذا الحلف يجهز لسورية مستقبلاً على مقاس أجنداته، أي أن مستقبل سورية تُوضع خرائطه الآن في الخارج. وما تجهله العناصر المدنية والعلمانية في المعارضة هو أنها لا مكان لها في هذا المستقبل.. فقد حُجز لأولئك الذين سرقوا الثورة لحساب الحلف المذكور، فالغرب سيرمي بعيداً هذه العناصر المدنية بمجرد انتهاء غرضه منهم بسقوط النظام. بينما سيواصل الخليج المهمة فيستمر في دعمه للإسلاميين لإدامة حالة الدولة الفاشلة (فوضى داخلية، معارك طائفية، انهيار اقتصادي…)، والتي يبدو أنها الوصفة المطلوبة لبلداننا لكي تنجو إسرائيل من التهديد. فالمهم للغرب وإسرائيل هو أن ينتهي زمن استخدام النظام السوري لحركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية ورقة تهديد.

الحقيقة أن تأجيج الطائفية في البلدان العربية لا تكمن في الدين وإنما في السياسة. واستخدام الطائفية أداةً في الصراع السياسي تكتيك حديث الظهور في منطقتنا، سجل أوضح حضور له في حرب تموز ،2006 عندما لم يجد نظام الحكم السعودي وسيلة للانحياز إلى إسرائيل، سوى الإفتاء بتحريم مناصرة حزب الله في الحرب، بدعوى أنه حزب شيعي!

حين يجري التنسيق بين دول الخليج والغرب على أرض سورية علناً لتنفيذ هذا المخطط، فمن المؤسف جداً أن نرى المعارضة السورية تدخل طرفاً ثالثاً وعلى حساب سيادة بلادها. فحتى حين يكشف رئيس الائتلاف السوري السابق معاذ الخطيب عن دور دول الخليج في مخطط تدمير، ومن ثم تقسيم سورية، فإنه لا يأتي على ذكر إرسال الغرب للسلاح إلى مؤيديه في سورية. وهذه واحدة من حالات الازدواج التي تقع فيها المعارضة السورية وتشكو فيها – من جهة – من ممارسات وجرائم التنظيمات الإسلامية المتطرفة التي تدعمها دول الخليج، وتدافع – من جهة أخرى – عن تلقيها هي مساعدات من الغرب، متجاهلة حقيقة أن الطرفين الداعمين (الخليج والغرب) حليفان في (عملية سورية)، وأن أهدافهما ومصالحهما هناك مشتركة!

الخطأ الكارثي (ليس سياسياً وحسب وإنما أخلاقياً بالدرجة الأولى)، حصل منذ أن طالب المعارضون السوريون الغرب بأن يدعمهم، وأدانوا حياد الغرب إزاء ما يجري في بلدهم. فهم الذين أوقعوا أنفسهم في مستنقع الدعم الغربي. ولأنه مستنقع فإن المرء كلما واصل التقدم فيه ازداد تورطاً فيه وقل الأمل برجوعه. وهذه هي النتيجة: لقد بات الدعم يأتي من إسرائيل مباشرة. وسواء (أدانت) المعارضة الغارة الإسرائيلية الأخيرة على سورية أم لا، فالواقع يقول إن مصلحتها تلتقي اليوم مع مصلحة إسرائيل؛ فقد ضاقت الأخيرة ذرعاً بعلاقة النظام السوري بإيران وحزب الله والفصائل الفلسطينية، وتريد الآن أن تنتهز هذه الفرصة التاريخية للتخلص منه، والإدارة الأمريكية مقتنعة بهذا. فهل سيصرّ الوطنيون السوريون، من أي اتجاه فكري كانوا، على القبول بأن يكونوا طرفاً في هذا اللعب الدولي القذر؟ هل انطلت عليهم بهذه السهولة خدعة أن إسرائيل والولايات المتحدة وأصدقاءهما في الخليج سيسمحون باستبدال نظام البعث بنظام ديمقراطي مستقل عن الهيمنة الأمريكية؟! هل هي سذاجة أكثر من اللازم أم هي شيء آخر؟

أكتب بهذه الحرقة، لأنني أتذكر الآن موقف العراقيين في نيسان ،2003 وأتساءل: لماذا لا نتعلم من أخطائنا، ناهيك بمخازينا، فنكررها وكأننا فاقدو الذاكرة؟

يهمني الآن أن أخرج بالدرس الكبير الذي تعلمني إياه سورية اليوم وعراق سنة ،2003 وكل بلداننا التي ثارت منذ سنة 2011. وهو أنه بعد مرحلة التحرر الوطني في منتصف القرن الماضي التي نالت فيها بلداننا استقلالها السياسي عن الدول الإمبريالية.. علينا اليوم أن ننجز تحررنا الثاني، لنحقق فيه استقلال إرادتنا السياسية وتطلعاتنا المشروعة عن الدول الإمبريالية نفسها وممثليها في المنطقة. لقد طردت موجة الاستقلال الوطني الأولى النفوذ الغربي من بلداننا، ولكن العولمة أعادته إلينا عبر أحدث وسائل التواصل الاجتماعي بفضل استجابتنا غير المتبصرة؛ فإذا كانت دولنا قد استقلت سياسياً، فإننا كشعوب ما نزال تابعين فكرياً. وإذا كانت حجج الدول الغربية في احتلال بلداننا قد انهارت منذ نصف قرن، فإن حججها (الحضارية) قد نجحت اليوم في احتلال عقولنا. ما نزال نرى بأم أعيننا حقيقة الغرب اللا إنسانية ماثلة في موقفه من قضية فلسطين، ورغم ذلك ننخدع بدعايته عن قيم الحرية والديمقراطية، ونرحب بخطته لعولمة الهيمنة الغربية، بحجة عولمة هذه القيم (الحضارية). لم نتقدم خطوة واحدة عن سذاجة أجدادنا وقت الحرب العالمية الأولى عندما صدقوا وعود الحلفاء ووقفوا إلى جانبهم في الحرب، ثم كافأهم الحلفاء بأن تقاسموا البلدان العربية فيما بينهم!

في حادثة باتت شهيرة، يُسكت جورج غالاوي أحد مجادليه السوريين بسؤال: هل تريدني أن أصدق أن ثورة يدعمها جون ماكين (الصهيوني) والولايات المتحدة والغرب، وكذلك السعودية وقطر (بنوعية أنظمتهما المعروفة)، هي ثورة من أجل العدالة والحق؟! وهو جواب ساطع أكثر منه سؤال. لكني أريد طرح السؤال بطريقة أخرى: إذا كانت الثورة السورية قد قامت من أجل العدالة والحق، فما حاجتها أساساً إلى أن تضع يدها بيد أكثر الأنظمة محاربة للعدالة والحق؟ بطش النظام بالمتظاهرين العزّل ليس مبرراً مقنعاً لتوسيخ ثورة شعبية، فهذا البطش ليس حالة فريدة بين الثورات، بل الأحرى القول: إنه الحالة المألوفة وما عداها استثناء. الموضوع في رأيي يظل موضوعاً أخلاقياً بالدرجة الأولى، فإما أن يضعف الانسان في الظروف القاسية ويختار حلولاً سهلة، وإما أن يكبر على ظروفه ويموت واقفاً.

علينا أن نحرر ثوراتنا من (دعم) الدول الإمبريالية وحلفائها في منطقتنا. علينا أن نكون حاسمين ومبدئيين ومتسقين مع أنفسنا في مواقفنا من الدول والمنظمات والشعوب. علينا أن ندقق جيداً في خلفيات ونوايا (المنظمات غير الحكومية) الأمريكية والغربية عموماً التي تعرض علينا الدعم، فحتى (المؤتمر الصهيوني) نفسه منظمة غير حكومية.

علينا أن ننجز ثورات شريفة، أو نكف عن أن نسمي أنفسنا ثواراً.

سمير طاهر

الحوار المتمدن، 17/5/2013

 

 

الحرب في سورية.. إلى الحرب عليها

لم تعد المعركة، في سورية اليوم، معركة بقاء نظام سياسي حاكم أو زواله، ومعركة انتصار المعارضات المسلحة – الداخلية والوافدة من خارج – أو هزيمتها، إنما هي أصبحت معركة بقاء دولة ووطن وشعب موحّد. وهي معركة لا يخوضها السوريون، فحسب، ضد وطنهم وشعبه ودولته، وإنما يخوضها أجانب وينفق عليها كثيرون من العالم والإقليم. ومن هؤلاء من يخوضها لتدمير سورية، أو تقسيمها، أو إضعاف جيشها وقدراتها خدمة للكيان الصهيوني. ومنهم من يخوضها لإيصال حلفائه المقاتلين إلى السلطة ليكون له – بواسطتهم – شأن في الإقليم وسياساته. ومنهم من يخوضها من باب النكاية والكيد ليعاقب نظاماً يخاصمه. وهؤلاء جميعاً، ولكنْ على تفاوت، لا يحسبون العواقب جيداً، ولا يفكرون في الذي ستصير إليه الأوضاع في المنطقة بعد خراب بلاد الشام، وهم جميعاً يملكون تفجير الأوضاع، لكنهم لن يملكوا – قطعاً – التحكم في نتائجها ومآلاتها.

من يتحدث عن (معركة ديمقراطية) في سورية، يضحك على نفسه، لا على الناس! فما من أحد يصدق أن ديمقراطية ما، في الكرة الأرضية، يمكن أن تأخذ شكل حرب تدمير الدولة والاقتصاد والمقدرات، وتحصد أرواح عشرات الآلاف من المواطنين، وتعود بالبلد إلى ما قبل الدولة الحديثة، وتمزّق النسيج الاجتماعي والوطني فتطلق العصبيات الطائفية والمذهبية من كل قيد وعقال، وترمي بملايين الأطفال خارج المدارس، وبملايين الناس خارج بيوتهم: نازحين أو لاجئين. إذا كان هذا ثمن (الديمقراطية) التي يريدون لسورية، مثلما أرادوها للعراق وليبيا، فلا أحد مستعد لأن يدفع هذا الثمن الوحشي القذر، وسيوجد من الناس من يقول حينئذ: ألف رحمة على الاستبداد، فهذا، على سوئه، يضمن للناس أمنهم وحياتهم، والحق في الحياة أقدس حقوق الإنسان جميعاً.

وما من أحد يصدّق أن (جيش الديمقراطية) المسلح والمقاتل، الذي (يجاهد) في سبيلها، تَعلم حرفاً من أبجديتها، إذ كيف لمن يريد إقامة (إمارة إسلامية) – على مثال إمارة طالبان – ولمن يريد أن يستنسخ نموذج (الديمقراطية) الإخوانية في مصر وتونس، وقبلهما غزة، أن يكون جيشاً للديمقراطية، أو أن يحمل مشروعاً سياسياً للبناء الديمقراطي؟ كيف يمكن لفكرة (الفرقة الناجية) أن تتعايش في رأس إنسان مع منظومة قيم سياسية مثل الحريات والحقوق والتعددية والاختلاف؟! كيف يكون ديمقراطياً من يرى في المعارضة مروقاً وخروجاً على الجماعة؟ ثم أية (ديمقراطية) هذه التي يكون (البلطجية) والمرتزقة أبطالَها وفرسانَها وصُنّاعَها؟

 على المرء أن يكون على قدر محترم من الغباء حتى يصدّق أُزْعَومَة (الديمقراطية) هذه، التي يقترحونها على سورية بالدم والحديد والنار. عليه أن يحتقر نفسه وعقله وآدميته حتى يقبل أن يكون في جملة المدافعين عن هذه الجريمة. أما أن يكون لهذه (الديمقراطية) السورية مؤيدون يعقدون لها مؤتمرات الدعم والمساندة، فتلك لعبة الدول التي تحكمها المصالح لا المبادئ، والتي يقوم فيها الضغط والابتزاز، من الكبار على الصغار، مقام الإقناع والتفاهم. وإذا كان للدول أن تسلك مثل هذا السبيل، لأن ذلك من أخلاق السياسة الدولية في هذا العصر، فلا يحق للمثقفين والإعلاميين والحزبيين أن يخطئوا في المبادئ، وأن ينساقوا إلى ترديد تَفاهات وتُرهات: إمّا عن خطأ في التقدير، وإمّا لمصلحة صغيرة. فالخطأ فيها خطيئة، لأنه خطأ في حق الأوطان والشعوب.

ومن المسلّم به أن الحرب لم تعد – منذ زمن – حرباً في سورية، وإنما أضحت حرباً على سورية، يهندسها ويقودها تحالف دولي وإقليمي أخطبوطي، ويُسخّر لها المال والحدود المفتوحة التي يتدفق منها السلاح والمسلحون، والدعم اللوجيستي اليومي من أنحاء المحيط الجغرافي بسورية كافة. ومن المسلمّ به أن جيش هذه الحرب متنوع الجنسيات، بعد أن سمّوا بلاد الشام (دار جهاد)، وأن جحافل المقاتلين المُستورَدين من خارج، أكثر فتكاً بالبلاد والعباد من مقاتلي الداخل، ولكن ذلك لا يُعفي السوريين من مسؤوليتهم عن تدمير بلادهم، وتذبيح شعبهم، من أجل سلطة لن تكون لهم، ومن أجل مستقبل سيقرره لهم غيرُهم، فمن لا يملك قراره الوطنيّ المستقلّ، لا يملك أن يصنع مصيره بمشيئته.

 أما الذين يوقدون، من الإقليم، النارَ لهذه الحرب، ويسخّرون لها المال والإعلام، ويلمّعون صورة المقاتلين، فيخطئون كثيراً إن اعتقدوا أن الفوضى والإرهاب سيظلان محصورَيْن في نطاق سورية لا يبرحانها، فلقد أطلقوا، هم، العفريت من قمقمه، وليس يسعهم أن يعيدوه من حيث جيء به.

عبد الاله بلقزيز

الخليج، 6/5/2013

العدد 1105 - 01/5/2024