في أهمية المعلومات وخطورتها

(إن الذين يخاطرون بما لا يعرفون يدفعون بأنفسهم ثمناً، والذين يخاطرون بما يعرفون يجعلون عدوهم يدفع الثمن، وأخطر عدو.. عدو متعلم).

 

(1)

كانت ولا تزال المعركة في سبيل السيطرة على مقدرات الشعوب وخيراتها، هي معركة المعلومات، فالحصول على المعلومات المناسبة لاستخدامها في المكان والزمان المناسبين حجب مصادر المعلومات على الخصم أو منعه من استخدامها هي جوهر الصراع عبر التاريخ البشري منذ أقدم العصور حتى الآن. فمنذ أن نص سان تزو في كتاب (فن الحرب) على معرفة العدو هي مفتاح النصر، أوضح بطريقة أخرى أن إعطاء معلومات خاطئة للعدو ستؤدي حتماً إلى هلاكه.

(من يعرف نفسه حق المعرفة ويعرف عدوه أيضاً، فسينتصر في جميع المعارك التي يخوضها. أما من يعرف نفسه ويجهل عدوه فاحتمال نصره يعادل احتمال خسارته، ومن لا يعرف قدر نفسه وقدر عدوه فخسارته محتمة في كل معركة).

فالمعلومات مهمة لمعرفة النفس أولاً، ولمعرفة العدو ثانياً، فلا فائدة من الثانية إذا كانت الأولى مجهولة.

فالمعلومات تساعد على إعداد تصور شامل لذهنية العدو وطريقة تفكيره ودراسات عاداته وتقاليده في الحزن وفي الفرح وهذا يساعد على التنبؤ بردّات الفعل المتوقعة لأفعاله. هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى تساعد المعلومات على فهم الأنماط الثقافية السائدة في المجتمع وآليات عملها، مما يساعد على توقع جميع تحركات أفراد هذا المجتمع وتصرفاته وإعداد الخطط المعاكسة لها.

وهذا ما نص عليه نيقولا ميكافيلّي في كتاب (الأمير) حين قال في وصف المخططين الرومان:

(ولقد نشأت دولة الرومان، ودرجت وشبّت، وهرمت وشاخت، وفيها رجال يحسبون للمستقبل ألف حساب، فكانوا أبداً يتقون عواقب الزلات السياسية. ولم يكن خوفهم من الحرب ليقف في وجه تلك السياسة الحكيمة، لأنهم عرفوا أن الحرب والسياسة توءمتان، ومن يرد أن يفوز في الأولى فلا بد أن يكون فوّازاً في الثانية، وأن تأجيل الحرب ربما يفيد العدو، فيستعد ويتأهب بما لا يوده الرومان…. على أن ساسة الرومان كانوا يستطيعون، بما اكتسبوه من الحكمة والخبرة، أن يتقوا تلك الحرب، وأن يوكلوا للأيام ما أوكلوه للرمح والحسام، بيد أنهم رأوا أن الدهر قُلّب، وأن اليوم لا يبوح بما يصنعه الغد).

وهنا يحق لنا أن نطرح سؤالاً بريئاً: هل نعرف من هو عدونا؟ هذا السؤال الأول، أما الثاني فهو: هل نعرف من نحن؟

 

(2)

كانت، ولا تزال، المعرفة دليل القوة والتقدم في كل مجتمع، وفي العصور القديمة كانت المعرفة محصورة في رجال قلائل امتلكوا القوة والنفوذ ليخضعوا الشعوب لسلطانهم تحت مسميات عدة (كاهن،ساحر،نبي). وهؤلاء كانوا الحليف المناسب لكل مغامر باحث عن السلطة، فعن طريقهم استطاع (الشيوخ،الأمراء،الملوك) السيطرة على الشعوب، فكان التقسيم كاهن – شيخ، هو الذي حكم مجمل التاريخ البشري، وإن شهد محاولات لإزاحة أحد طرفي المعادلة لصالح الطرف الآخر، منها ما نجح ومنها ما فشل. ولكن بزوغ العصر الحديث أدى إلى إخلال التوازن بهذه المعادلة، فقد أصبح لدى سكان العالم  القدرة على الوصول إلى تلك القوة والقدرة.فحالات التقدم التكنولوجي أدت إلى تخفيض كبير ومفاجئ في كلفة المعلومات، وإلى مرونة كبيرة في طريقة الحصول عليها وإعادة بثها. والنتيجة هي حدوث ما يسمى (مفارقة الكثرة الغزيرة). فوفرة المعلومات تؤدي إلى ندرة الانتباه. فعندما يغرق الناس في حجم المعلومات التي تواجههم ويجدون صعوبة في تمييز ما يركزون عليه. فيصبح الانتباه والقدرة على التحليل لدى المتلقي العادي هي النادرة في الدرجة الأولى، ثم مفقودة في الدرجة الثانية، وليس المعلومة. فالذين يستطيعون تمييز المعلومات من فوضى الخلفيات المتراكمة يكتسبون القوة. وهكذا يزداد الطلب على المحررين والملقنين، وهذا هو مركز القوة للقادرين على إخبارنا أين نوجه انتباهنا أولاً، ومن ثمة تركيز الانتباه على تلك الجهة، ليتفرغوا للجهات الأخرى.

وكان دخول التلفاز مصدراً للمعلومات ضربة قاصمة للفكر السياسي العربي، لأنه بالدرجة الأولى يقوم بعرض صورة قد لا تمتّ إلى الفكرة بصلة. والصورة كانت ولا تزال تؤثر في العواطف، بينما الفكرة تقوم على الحوار والإقناع، وهذه العملية نقلت عملية صنع القرار من أرض الواقع إلى مسرح الخيال، ونقلت السياسة من فن الممكن إلى فن الأداء، إذ المطلوب هو إتقان الدور على المسرح دون أي اعتبار آخر. فبدلاً من البحث عن حلول للواقع والتخطيط للمستقبل، وهو جوهر العملية السياسية، تحولت إلى وعاء لإفراغ الغرائز وتكرار خطابات لا تمتّ إلى عالم الواقع بصلة، فأصبح المشاهد العربي مدعواً إلى حلقات متتابعة من مسلسلات الدراما العربية، كل مسلسل له كاتب للسيناريو ومنتج ومخرج، وكل منها يناسب الموروث الثقافي والشعبي لسكان الوطن العربي الكبير(من وادي النيل، إلى المغرب العربي، إلى بلاد الشام وصولاً إلى الخليج العربي وبلاد اليمن السعيد). وكل هذه المسلسلات أدت إلى تدمير قدرة المواطن على تكوين رأي خاص به أولاً، ومن ثم رأي جمعي حول قضية وطنية أو قومية (كما حدث أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان) فقد أدى انقسام الرأي حول العدوان إلى بوادر صراع مذهبي بين مكوني الإسلام الرئيسيين.

العدد 1104 - 24/4/2024