شعب مصر: 72 ساعة هزت البلاد وغيّرت توجهها

ثمة حقائق دامغة لا يمكننا تجاهلها، أو عدم الإشارة إليها على الأقل، في سياق التعاطي مع ال 72 ساعة الحاسمة، التي أزاحت الرئيس الإخواني محمد مرسي، بوصفها نتيجة لحراك متنوع ومتعدد الأوجه، استمر ولايزال، منذ انتصار ثورة 25 يناير/ كانون الثاني ،2011 التي أطاحت بنظام حسني مبارك، كذلك بوصفها تراكماً شعبياً بلغ ذروته في لحظة مصيرية تاريخية، تلخصت في (توافق) غالبية قوى ثورة كانون الثاني وإفرازاتها العديدة، وبضمنها العديد من التيارات الإسلاموية، ومواقف العديد من الرموز الدينية (الإسلامية والمسيحية) المستنيرة، التي ساهمت بمجموعها، إضافة إلى عوامل أخرى وطنية أولاً وقبل أي شيء آخر، في انحياز المؤسسة العسكرية الوطنية المصرية لصالحها. وتوافق هذه القوى والأحزاب والحركات والرموز الغالبية، على خريطة طريق وطنية رفضها مرسي وحزب (الحرية والعدالة) الإخواني، وأدت إلى تغيير في قمة هرم السلطة وتباعاً في هياكلها.

منذ البدء بثورة 25 كانون الثاني، تمهل الإخوان المسلمون، وعن دراية وقصد، عن المشاركة في هذه الثورة الشعبية، إلى أن اتضحت معالم شموليتها الوطنية الواسعة، وملامح الرضا الخارجي، وبخاصة الأمريكي – (الغربي)، عن التغيير (الاضطراري)، وضرورة التخلي عن النظام المصري الحليف لواشنطن، وصولاً إلى مطالبته بالنزول عند موقف الشارع! كذلك حجم الدعم الإقليمي المؤيد لما يسمى ب(ثورات الربيع العربي)!

وأعلنت حركة الإخوان المسلمين بعد مشاركتها المتأخرة، عن ضرورات (التشاركية) و(التعددية الديمقراطية) وعدم (الاستئثار) أو (الانفراد) بالسلطات، وصولاً إلى تعهدها (أكبر وأقدم قوة منظمة أنشئت قبل ثمانية عقود) عدم ترشيح ممثل عنها إلى منصب الرئاسة. ومع انتصار ثورة 25 كانون الثاني، بدأت تتكشف تباعاً مخططات الحركة بالتراجع عن تعهداتها، وفي سيطرتها التدريجية على مفاصل الحكم، وفي مقدمتها منصب الرئيس الذي شغله مرسي، ثم أتبعت بتشكيل حكومة إخوانية بزعامة هشام قنديل، وفي محاولات السيطرة على السلطة القضائية، وتدجين مؤسسة الإعلام، والوصول إلى مجلس دستوري ذي غالبية إخوانية، ومحاولة استكمال هذه الهيمنة بإقرار انتخابات برلمانية تكرس السيطرة الإخوانية على الهيئة التشريعية (البرلمان) أيضاً.

وإذ ساهم في نجاح حركة الإخوان، في خطوات الهيمنة هذه على مقاليد الحكم تباعاً، قدرتها وبنيتها التنظيمية من جهة، وحجم الدعم الواسع الخليجي- الإخواني- (الغربي)، كل وفق مصالحه من جهة ثانية، فإن عدم تبلور مواقف تنسيقية بين القوى الشعبية الحقيقية المبادرة والمحركة لثورة 25 كانون الثاني، وضعف البنية التنظيمية لهذه القوى، فضلاً عن افتقادها للدعم الخارجي، وللتجربة التنظيمية- الشعبية، قد ساهم أيضاً في تحقيق هذا النجاح الإخواني.

الأمر الذي أوصل إلى تباين وتناقضات بين غالبية الشارع المصري الساحقة والهيئات القيادية المصرية الإخوانية، المصرة على التمسك بكل مقاليد الحكم، ازدادت حدتها مع بدء أخونة مصر بمؤسساتها وهيئاتها، وتعارض هذه الأخونة مع تطلعات الشعب ومحركي الثورة. وتجلى في الفرز السياسي- الشعبي التدريجي، على امتداد أقل من عام، وأنتج (تشكيل جبهة الإنقاذ بأحزابها ال ،15 حركات شعبية معارضة للأخونة (حركة تمرد، فضلاً عن شباب الثورة، تباينات التيار الإسلاموي.. إلخ).

وأوصل هذا التعارض – التناقض إلى التوافق على رفض الأخونة، والمطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة، وعلى رفض سياسات مرسي (ومجموعته) و(حكومته)، وأن مصر لكل المصريين، ورئيسها يفترض أن يكون رئيساً لكل الشعب لا ل(مجموعة). وازدادت الأمور حدة نتيجة سياسة مرسي الداخلية، التي لم تحقق على امتداد عام، أيا من أهدافها الاقتصادية – الاجتماعية: (تخفيض العجز في الموازنة، البطالة، الفقر، التفاوت الطبقي.. إلخ). وفشل محاولات الإخوان في إنقاذ الاقتصاد المصري المأزوم منذ 30 عاماً، بل اعتمادهم على الاستدانة والارتهان لمحور (قطر وغيرها).

وأظهرت السياسة الخارجية (احترام) مرسي وجماعته لاتفاقيات الذل السابقة مع إسرائيل، لا بل تطوير العلاقات معها، كذلك مع الولايات المتحدة والغرب. أما إقليمياً وعربياً فتراجع دور مصر إلى التبعية والذيلية والاضمحلال أكثر فأكثر، وصولاً إلى اتخاذ مواقف مشينة ضد الدول العربية الوطنية (قطع العلاقات مع سورية)، وإعلان الدعم الرسمي للجهاد فيها، المترافق مع محاولة زج القوات المسلحة المصرية في هذا النهج المرفوض شعبياً ووطنياً، أو التلويح بتحجيم دورها بوصفها مؤسسة وطنية.

وقد أدت هذه السياسة الكارثية إلى تداعي القوى الوطنية والليبرالية، على اتساعها وتبايناتها، بالدعوة إلى تصحيح مسار الثورة في 30 حزيران في الذكرى الأولى لتسلم مرسي سلطاته الرئاسية وإسقاطه هو ومخطط الأخونة. وأمام جمع هذه القوى أكثر من 22 مليون توقيع، والعودة المليونية في 30 حزيران إلى الميادين، واتساع حركة الاحتجاج، وحرصاً من المؤسسة العسكرية (التي هدّدها مرسي) على الحفاظ على مصر ودورها، (توافقت) هذه القوى مع تحذير وزير الدفاع الفريق عبد الفتاح السيسي، الذي أبلغ عبره موقف القيادة العسكرية المتضمن الحرص على وحدة مكونات مصر والتعددية والتشاركية ورفض الانفراد، والبدء بتنفيذ ذلك خلال 48 ساعة.

وفي الوقت الذي أصر فيه مرسي على شرعيته، التي أسقطتها المسيرات المليونية و(توافق) الغالبية الساحقة للقوى الشعبية على خطة المؤسسة العسكرية، التي تداعت إلى عقد اجتماع استثنائي، قبيل ال48 ساعة المحددة، رفض حزب الحرية والعدالة والجماعات الإسلامية المشاركة فيه، توصل إلى خريطة طريق للخروج بمصر من أزمتها. وتضمنت هذه الخريطة العديد من البنود أهمها:

* تسمية المستشار عدلي منصور (رئيس المحكمة الدستورية) رئيساً مؤقتاً.

* تعطيل العمل بالدستور الحالي مؤقتاً.

* الدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة.. إلخ، أيدها ممثلو الغالبية الساحقة من القوى المشاركة (الإنقاذ، حركة تمرد، شباب الثورة، حزب النور السلفي، ممثلي الأزهر الشيخ أحمد الطيب، الأبنا تواضروس.. إلخ).

72 ساعة فقط بين بدء احتجاجات 30 حزيران، وصولاً إلى إزاحة محمد مرسي، أظهرت بمجموعها أزمة الأخونة وفشلها، كذلك مخططات الإخوان وسياساتهم الداخلية والخارجية، وإلى تعارض هذه السياسة والتوجهات مع تطلعات غالبية الشارع المصري ومصالحه الحياتية المباشرة والوطنية أيضاً. كما أظهرت ال 72 ساعة قدرة الشارع على فرض مواقفه مرة أخرى، حتى على القوة الأكثر قدرة وتنظيماً (حركة الإخوان)، وعدم قدرتها على مواجهة الشارع المصري المتضرر من هذه السياسة. كذلك أهمية (التفاهم) و(التنسيق) بين القوى الوطنية المتعددة، على اختلافها، في مواجهة الأخونة وتبعاتها. ولا نغفل هنا ما تمثله المؤسسة العسكرية وطنياً، واقتصادياً، واجتماعياً.. فضلاً عن رفضها مخططات الأخونة، أو تهميش هذه المؤسسة الوطنية وتدجينها وإدخالها في صراعات غريبة عنها وعن تاريخها الوطني.

ويفترض بهذا النجاح الباهر في التغيير الذي ترافق مع توقيف مرسي وعدد من قيادات الإخوان، الذين دعوا إلى استمرار التظاهر الإخواني، ورفض النظام الجديد، ولو أدى ذلك إلى حرب أهلية، أن تحافظ قواه ورموزه والمؤسسة العسكرية على التنسيق فيما بينها، وعلى مواصلة التغيير في مؤسسات الدولة، الذي عبر عنه بالحوار بين الجميع، وعدم إقصاء حتى المعارضين لثورة حزيران.

مهمات كثيرة تنتظر مسيرة تصحيح الثورة وطنياً وخارجياً، يطرحها واقع مصر، وبخاصة تبعات عام من الأخونة وسلبياتها اقتصادياً واجتماعياً.. كذلك كيفية التعاطي مع مواقف الدول العربية، التي اعترفت سريعاً، أو اضطرت لذلك، بالنظام الجديد (بضمنها قطر) انسجاماً مع التغيير أو عدم قدرتها على الفعل أمامه. فضلاً عن المواقف الانتهازية الفاقعة للدول الإخوانية (تركيا، تونس.. إلخ) الرافضة لهذا التغيير الشعبي العارم، مقابل تأييدها السريع لإزاحة نظام مبارك ومطالبته الاستجابة الفورية لإرادة الشعب.

أما المواقف الدولية فتنوعت وتباينت من الخشية على (الديمقراطية)، إلى التحذير من تبعات (الانقلاب) العسكري. فقد أعادت إلى الذاكرة طبيعة مواقفها من حليفها مبارك، مقارنة بالموقف من مرسي، وتالياً رغبة الغالبية الساحقة من الشارع في تصحيح مسار الثورة واستعادتها.. في الوقت الذي أعلنت فيه الدول الصديقة لمصر- وإن بتفاوت، تأييدها لرغبة الشعب المصري وتطلعاته.

مهمات عديدة تواجهها مصر ما بعد استعادة الثورة وتصحيح مسارها، وفي المقدمة كيفية الحفاظ على هذه الإنجازات الكبيرة ومواصلتها (حكومة مؤقتة واسعة، تحديد موعد الانتخابات الرئاسية.. إلخ)، وتالياً انعكاساتها الإيجابية على مصر والمنطقة، والمساهمة في إفشال المخططات التي وضعت لهذه المنطقة، وما تركته وماتزال من آثار وتبعات سلبية على العديد من هذه الدول، وبخاصة الإخوانية منها، أو دول (الربيع العربي) والداعمة له، والتي ستزداد اتساعاً وستؤثر حتماً على التفاعلات المستمرة في المنطقة أيضاً.

العدد 1104 - 24/4/2024