إعلام تجاوز الحدود وكسر قواعد اللغة

 أنشئت شبكات التواصل الاجتماعي بالأساس للتواصل الاجتماعي بين الأفراد، إلا أن استخدامها امتد ليشمل أنشطة، ومجالات أخرى، كالعمل السياسي، والإعلامي، وغيره الكثير من المجالات. ومنذ انطلاقتها حملت تلك الشبكات العديد من العادات وأثرت في الكثير من الأمور التي ترتبط بالعالم الافتراضي من قريب أو بعيد، حتى طال تأثيرها عالم الإبداع والأدب فأثرت على أسلوب الكتابة، ودفعتني وغيري إلى الاختصار والتركيز في الكتابة، ولكنها في المقابل أدت إلى تشجيع الكثيرين من روادها على التعبير بمكنونات نفوسهم وشجعتهم على الكتابة، ولو كان على حساب بناء الجملة قواعدياً ولغوياً، فانتشرت الخربشات على جدرانها وأطلقت العنان لآلاف من الأقلام التي أمست تكتب كل ما يجول من خواطر أصحابها، فأضحى من حق الجميع أن يكتب ويعبر ويتلقى الإعجاب ويتبادله مع الآخرين.

لقد استخدمت مواقع التواصل الاجتماعي في البداية للدردشة ولتفريغ الشحن العاطفية. ولكن مع الوقت سرت موجة من النضج، وأصبح روادها يتبادلون وجهات النظر من أجل المطالبة بتحسين إيقاع الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتخطت تلك الأفكار التابوهات المفروضة وحطمت القيود المرسومة ووضعت بديلاً عنها قيماً جديدة رافضة للواقع بسهولة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، حتى باتت هذه الشبكات  تنذر بمنافسة الإعلام التقليدي القائم عن طريق الانتقال من الكتابة الشكلية على الإنترنت إلى التأثير الحقيقي في العملية السياسية، وسنشهد عند حدوث ذلك تحولاً من كون الإعلام الجديد منبراً سياسياً إلى أداة اجتماعية. وسيجد الخطاب السياسي مساحة أكبر وتأثيراً أوضح. وبهذا تحققت مقولة مارشال ماكلوهان: إن (الوسيلة هي الرسالة). فباتت صفحات الفيسبوك وتويتر ويوتيوب.. وغيرها هي الرسالة التي يرسلها الشباب هذه الأيام للتعبير عن مواكبتهم للحداثة، وفي الوقت نفسه، رصد ما يمرون به من ظروف صعبة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والنفسية وحتى السياسية!

وانتشرت هذه المواقع لسهولتها عند الكتاب بصياغة أفكارهم، إذ سهلت على روادها إيصال صوتهم إلى شريحة كبيرة من المتلقين، كما أنها فعلت آليات تواصل أكثر فاعلية فيما بين الأطراف. ففتحت هذه الشبكات نوافذ التواصل، وأصبح من السهل أن يقرأ ما تنشر العشرات بل المئات خلال دقائق. فأعطى ظهور وسائل التواصل الاجتماعي مستخدميه فرصاً كبرى للتأثير والانتقال عبر الحدود بلا قيود ولا رقابة إلا بشكل نسبي محدود. فكونت لدى رواد العالم الافتراضي نظرة جديدة، وخاصة الشباب، عن طريق تكوين الوعي في نظرتهم إلى المجتمع والعالم. فالمضمون الذي تتوجّه به عبر رسائل إخبارية أو ثقافية أو ترفيهية أو غيرها، لا يؤدي بالضرورة إلى إدراك الحقيقة فقط، بل إنه يسهم في تكوين الحقيقة، وحل إشكالياتها، فأوجدت قنوات للبث المباشر توقف احتكار صناعة الرسالة الإعلامية لينقلها إلى مدى أوسع وأكثر شمولية، وبقدرة تأثيرية وتفاعلية لم يتصوّرها خبراء الاتصال. فشرعت الأبواب أمام الجميع وكسرت طوق احتكار المنبر، وأمّمت طرق التواصل بين الكاتب والجمهور. بل غدت هذه الطرق دولية وعالمية، ما ألغى الحاجة إلى جوازات مرور أو تأشيرة دخول… أما الإنجاز الأهم فكان توجيه ضربة موجعة للرقابات الحكومية المفروضة على مسالك الفكر والكلمة. ولكن الشبكات الاجتماعية أيضاً أدت على اختلاف مواقعها إلى ظهور نمط جديد من الكتابة الأدبية والشعرية وحتى الصحفية. فاختزلت العبارات وركزت الأفكار، وبدأت العبارات تظهر على شكل فلاشات سريعة كثيفة المحتوى، تحوي في كثير من الأوقات أخطاء كان بالإمكان تلافيها لو أعيد النظر فيها وبقراءتها، لتنسجم مع آلية قراءة المتلقي التي لم تعد تأملية بقدر ما هي تفقدية سريعة.

لقد سببت مواقع التواصل الاجتماعي استسهالاً عند الكتاب بصياغة أفكارهم الإبداعية، لإيصال صوتهم إلى شريحة كبيرة، عبر آليات تواصل أكثر فاعلية فيما بين الطرفين. ولكن من شأن ذلك مع الوقت أن يُضعف الحالة التفكيرية والتأملية التي يحتاجها الكاتب لصياغة فلسفة وجودية وجدانية خاصة به، وقد يتسبب مثل هذا الاستسهال في تراجع المستوى الفني للعمل المطروح في بعض الأحيان.

العدد 1105 - 01/5/2024