زواج مدني وسط إحصائيات غامضة

كثر الحديث مؤخراً في وسائل الإعلام العربية عن الزواج المدني، خاصة بعد أن سجل البلد العربي الشقيق لبنان أول حادثة زواج مدني تحدث على أرضه في تاريخه، بعد جدل موسع أنهاه وزير الداخلية اللبناني مروان شربل بتوقيعه على عقد الزواج المدني بين نضال درويش وخلود سكرية، مما أجبر مديرية الأحوال الشخصية اللبنانية على تسجيله رسمياً، بعد سنوات طويلة كان يضطر فيها كل زوجين راغبين بالزواج المدني للسفر إلى الجارة قبرص لتحقيق هذا الحلم.

تفتخر سورية دائماً بعلمانيتها، لكن الدستور السوري لا يرتقي أبداً إلى العلمانية، بل ويعارضها في كثير من الجوانب .

وبعيداً عن التعارض بين الدستور السوري والعلمانية، فإننا نجده يفتقد لأبسط مقومات ومظاهر العلمانية، التي من بينها الزواج المدني، إذ إن الدستور السوري يجبر المواطنين وفقاً لمواد الأحوال الشخصية على الزواج الديني، رغم أنه هو ذاته في الفصل الأول من بابه الثاني الخاص بالحقوق والحريات يؤكد حرية المعتقد، وتحديداً في البند الأول من المادة الثانية والأربعين الذي ينص على ما يلي: حرية الاعتقاد مصونة وفقاً للقانون. فعن أي حرية عقيدة نتحدث ونحن نجبر المواطن على طقوس الزواج الديني؟ أليست الأديان تنطلق من مبدأ (لا إكراه في الدين)؟ فكيف نُكرِه الإنسان غير المتدين أو غير المؤمن على المبادئ الدينية؟ أليست إساءة للدين أن يقوم غير المؤمن بطقوس لا يؤمن بها، فقط لأنه ورث هوية  أهله المذهبية؟ فيقوم بمجرد التمثيل حتى يتزوج، لأنه لا خيار آخر أمامه في ظل دستور فيه إكراه على هذا التصرف. قد يكون تطبيق الزواج المدني هو أحد أسهل وأفضل تطبيق لمظاهر العلمانية التي نفتقدها، فهو من المظاهر التي لا تتعارض إطلاقاً مع الدين. فصحيح أن المؤمن لن يرضى أن يطبق على نفسه زواجاً مدنياً، لكن في المقابل فإن الزواج المدني لا يمنع أبداً الزواج الديني، فبعد تسجيل الزواج المدني في الدولة، يستطيع العروسان أن يطبقا الزواج الديني بالكامل بغض النظر عن أي دين يتبعان، وفي الوقت نفسه نكون قد قدمنا لمن لا يريد أن يتزوج دينياً فرصة حتى لا يكون مكرهاً على تطبيق طقوس الدين، محققين بذلك مبدأ (لا إكراه في الدين) بكل بساطة ووضوح. فلماذا نحرم الآخر غير المؤمن من حق لا يضرنا ولا يعيق إيماننا ولا يتعارض معه؟ بل على العكس، فهو كما قلنا يرفع إساءة مفروضة حالياً على الدين، وهي أن يكره إنسان غير مؤمن باسم الدين، وأن يضطر مكرهاً لتمثيلية (بالنسبة إليه) لا يؤمن بها، فقط لأنه مكره على ذلك دستورياً، فهل أفضل من رفع هذه الإساءة؟

وإذا كان للبعض مشكلة في تطبيق  الزواج المدني على نفسه نظراً لدوافع مسبقة رغم اقتناعه بالمضمون فلا مشكلة في ذلك ولا تعارض، لأننا يمكن أن نضمّن الزواج المدني في الدستور السوري كخيار إضافي في الأحوال الشخصية إضافة إلى الزواج الديني المتاح حالياً، ويمكن أن تشكل هذه الخطوة بداية جيدة وخطوة على الطريق تشكل حلاً وسطياً مقبولاً يحقق عدلاً وحرية حقيقية في العقيدة، كما أقر الدستور السوري.

حان الوقت لنهضة فكرية تصحح المفاهيم الخاطئة، حان الوقت لأن نتقبل الآخر المختلف عنا حتى لو اختلف عنا في جوهر فكرنا وعقائدنا، حان الوقت لأن نحترم اختلاف الآخر وحقه في هذا الاختلاف، حان الوقت لاحترام حقوق الآخر والدفاع عنها وكأنها حقوقنا الشخصية، مهما كان الاختلاف بيننا وبينه، نحتاج إلى الشجاعة الآن لاتخاذ هذه الخطوة، نعم .. قد تثير كثيراً من الجدل في البداية، لكنها مسؤولية المثقفين في خلق مناخ دستوري أكثر جذباً باتجاه تقبل الآخرين وخاصة غير المؤمنين منهم فهم فئة مهمشة دستورياً بالكامل، واحترام حقوقهم، وخاصة تلك التي لا تتعارض معنا ولا تعيقنا في شيء، ومنها الزواج المدني. وسننتقل بعد فترة لأن يعتاد كل إنسان أن الدستور السوري يعطي المؤمن حقه مثلما يعطي غير المؤمن حقه بالتساوي، وفي هذا الاعتياد تهذيب للنفوس وتدريب لها على التعايش والتسامح ونبذ التعصب.

تطرح مواقع التواصل الاجتماعي العديد من الإحصائيات بعنوان: (هل تقبل بالزواج المدني؟) ، وتختلف نسب النتائج وفقاً لطبيعة الصفحة، فيما إذا كانت داعمة للزواج المدني أو معارضة له أو تقف على الحياد، لكن في الحقيقة هذا السؤال ناقص جداً، يفتقد جوهر الزواج المدني، فهل يقصد قبول الزواج المدني على نفس المجيب بمعنى أن يتزوج مدنياً حصراً؟ أم أنه يقصد فقط قبول وجود حق الزواج المدني للآخرين؟ أم يقصد تطبيق الزواج المدني دستورياً من ناحية تسجيله في الدولة مع وجود الإمكانية الكاملة لتطبيق الزواج الديني أيضاً وتحقيق شرع الأديان دون التعارض معها؟ فمثلاً -وقد يفاجأ القارئ- فإن كاتب هذه المادة مؤمن، ولن يرضى أن يؤسس أسرته بغير الزواج وفق دينه، لكنني وفي الوقت نفسه أسعى جاهداً لتحقيق قبول في المجتمع السوري حول الزواج المدني كمعاملة قانونية دون الحاجة إلى الورقة الدينية احتراماً لحق الآخر المختلف عني، ودون أن يعيق ذلك أبداً حصول الزواج الديني الذي هو حقي الكامل كمؤمن، أو على الأقل وجوده كحق اختياري إضافي في الدستور السوري، وبالتالي كيف لي أن أجيب على هذه الإحصائيات الغامضة التي لا توضح قصدها!

وبالتأكيد لو أن هذه الإحصائيات أوضحت للمشاركين فيها هذه الأفكار ببساطة ووضوح، وخاصة فكرة عدم التعارض مع الدين أو الانتقاص منه، وأوضحت المقصود من السؤال، فإنها ستحصل حتماً على نسب قبول أفضل بكثير، لأن المجتمع السوري الحريص على معتقداته هو مجتمع متسامح ومتعايش ويحترم حقوق الآخرين من أبناء الوطن، خاصة إذا اتخذنا الخطوة الجريئة دستورياً والتي ستجعل الناس يتعايشون مع الفكرة واقعياً ويكتشفونها بشكل ملموس.

إننا نحتاج إلى الشجاعة الحقيقية في مواجهة ذواتنا، إذا كنا فعلاً على قدر ما نقوله عن أنفسنا وعلى قدر ما يصفنا به الآخرون من تسامح ونموذج للعيش المشترك. وإذا كنا صادقين في قولنا إننا نتقبل المختلف عنا في عقيدتنا ونتعايش معه ونحترم حقوقه، لأن الموضوع في جوهره أعمق من مجرد طريقة زواج، وإن كنا حقاً نستحق أن تحتوي أدياننا وشرائعنا مبدأ (لا إكراه في الدين).

العدد 1105 - 01/5/2024