في سلبيات استئناف المفاوضات الفلسطينية ــ الإسرائيلية الحالية

عقدت في القدس المحتلة، برعاية وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، الجلسة التفاوضية المباشرة الأولى، بين الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي، والتي أشيع عن عقدها بسرية تامة، بعيداً عن وسائل الإعلام والصحفيين، بهدف إبقاء نقاطها بعيدة عن التداول والتكهنات والتوقعات المتبادلة. وإن كانت هذه الجولة هي الأولى التي تعقد في المنطقة منذ أكثر من ثلاث سنوات، وعلى وقع عمليات الاستيطان والتوسع الإسرائيلي، وخاصة في محيط القدس الشرقية، فإنها أشّرت إلى عمق الخلافات بين الجانبين، وإلى الانتقادات الحادة لها وتبعاتها من كلا الجانبين أيضاً.

وعقدت هذه الجولة التفاوضية (14 آب) بعيد لقاء واشنطن الثلاثي الأمريكي- الفلسطيني- الإسرائيلي الذي جرى قبل أيام قليلة، بحضور وزيرة العدل ومسؤولة ملف المفاوضات تسيبي ليفني، وعضوية إسحاق مولخو ممثل رئيس الحكومة الإسرائيلية، كذلك صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين، والمفاوض محمد إشتيه، وبحضور المبعوث الأمريكي مارتن أنديك.. كما عقدت على وقع القرارات الرسمية الإسرائيلية حول عطاءات وقرارات حكومية لبناء 2000 وحدة سكنية في الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية، تضاف إلى آلاف الوحدات السكنية الأخرى، التي تنوي إسرائيل بناءها قريباً: (صرح وزير الإسكان أوري أريئيل أن الدولة ستبني قريباً آلاف الوحدات.. لا أحد يملي علينا أين يمكن أن نبني.. هذه الوحدات ستبنى في مستوطنات معزولة، وليس في الكتل الاستيطانية الكبرى على الأقل)!

ورغم خطورة هذا التصريح حول البناء في مستوطنات معزولة، فإن الأخطر يتمثل في استئناف المفاوضات الثنائية، على وقع هذا الاستيطان الذي يطول الأراضي الفلسطينية كافة، والقدس الشرقية خصوصاً، وهو ما يمثل تناقضاً واضحاً وصريحاً للتعهدات الإسرائيلية غير الرسمية لواشنطن، كذلك للحالة الفلسطينية التي طالبت بالتزام إسرائيل بالاتفاقيات والتعهدات السابقة، وفي مقدمتها تجميد الاستيطان قبل أي استئناف للمفاوضات.

ويندرج هذا الخرق الإسرائيلي في سياق حملة ممنهجة ومنظمة تهدف إلى مواصلة سياسة الاستيطان بوصفها لا تمثل عقبة أو عرقلة لاستئناف المفاوضات، لا بل حقاً إسرائيلياً، لا يجوز للآخرين الاعتراض عليه أو المطالبة بوقفه. تجدر الإشارة هنا إلى تصريح وزير الخارجية الأمريكي كيري: (أن مسألة الاستيطان لن تشكل عقبة على طريق استئناف المفاوضات). كما تجدر الإشارة هنا أيضاً إلى أن معاودة المفاوضات دون تنفيذ التوقف عن الاستيطان تمثل تراجعاً رسمياً فلسطينياً- تفاوضياً عن الأسس التي حددتها القيادة الفلسطينية، وخاصة مسألة تجميد الاستيطان، وهي تمثل خرقاً للتوافق الوطني الفلسطيني في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، والسلطة الفلسطينية أيضاً. وتضاف هذه المسألة، على أهميتها وحساسيتها، إلى جملة المسائل الأخرى الأكثر تعقيداً، والتي مازالت خارج إطار المفاوضات الأولية الجارية، وفي مقدمتها مسائل الحدود، الحل النهائي، مصير القدس الشرقية، اللاجئون، مستقبل الكتل الاستيطانية الكبرى الواقعة على امتداد الخط الأخضر (حدود عام 1967)، فضلاً عن المرجعية الدولية لهذه المفاوضات وليس المرجعية الأمريكية فقط.

ورغم تصريحات الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) الأخيرة حول ضرورة خلو الأراضي الفلسطينية من أي مستوطن أو جندي إسرائيلي، على أهميتها، فإن العودة إلى طاولة المفاوضات، في ظل استمرار العملية الاستيطانية، يمثل رداً إسرائيلياً عملياً على الموقف الرئاسي الفلسطيني.. كما يمثل الموقف الأمريكي من أن الاستيطان لا يمثل عقبة تفاوضية، تراجعاً أمريكياً أيضاً عن التعهدات الشفهية التي قدمت للفلسطينيين. في الوقت الذي تساهم فيه هذه العودة إلى المفاوضات في إحداث شرخ في المواقف الداخلية الوطنية الفلسطينية من جهة، وفي جدية الموقف الرسمي – التفاوضي الفلسطيني ومصداقيته من جهة أخرى.

صحيح أن استمرار حالة الانقسام الفلسطيني، وعدم ولوج المصالحة الوطنية يساهم مساهمة ليست قليلة، في إضعاف الموقف الفلسطيني، وفي هذا التراجع الرسمي التفاوضي الفلسطيني، إلا أن الحالة العربية الرسمية، منذ ثورات ما يسمى بـ(الربيع العربي) وتداعياتها، قد أثرت سلباً على الموقف الفلسطيني التفاوضي أيضاً.. ومن شأن هذه العودة إلى المفاوضات دون تنفيذ الاستنحقاقات المطلوبة، أن تسهم في (مرونة أوربية ودولية) في التعامل مع إسرائيل، وخاصة من جانب اللجنة الرباعية الدولية، وبضمنها الولايات المتحدة الأمريكية أولاً، أكثر من السابق.. كما تساعد في تراجع الأوربيين عن مواقفهم (النظرية) حول وقف التعامل مع منتجات المستوطنات وتصديرها إلى الدول الأوربية أيضاً. إضافة إلى ما تمثله من (إحراجات) للأطراف الدولية الإيجابية المطالبة باحترام قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة وتنفيذها.

في الوقت الذي تشكل فيه هذه العودة الفلسطينية إلى المفاوضات الثنائية المباشرة، تعقيداً إضافياً لكيفية التعاطي التفاوضي القادم بشأن القضايا الأكثر تعقيداً وحساسية (القدس، اللاجئين، الحدود النهائية.. إلخ).

ورغم تصريحات واشنطن الرسمية حول مرحلة تفاوضية حدها الأقصى 9 شهور (أي تحديد سقف زمني لعملية المفاوضات، وهذا مطلب فلسطيني أساساً)، فإن بدء المفاوضات على سكة عرجاء، لا يؤشر إلى إمكان نجاحها من جهة، أو تعاطيها الجدي مع المسائل والإشكاليات الأكثر تعقيداً وحساسية من جهة ثانية، وهذا هو الأهم والجوهري برأينا.

وإذ تمثل هذه العودة إلى المفاوضات، وفق ما أشير إليه آنفاً، خللاً في الحالة الفلسطينية، وهذا ما أشارت إليه تصريحات العديد من قادة العمل الوطني الفلسطيني، في إطار منظمة التحرير الفلسطينية وخارجها أيضاً.. فإنها تساعد في بقاء هذا الائتلاف اليميني المتطرف.. هذا الائتلاف الذي يستفيد كلياً من العودة إلى المفاوضات دون الالتزام باستحقاقاتها وتبعاتها، وانعكاسات ذلك على واقع الحكومة القائمة، وعلى طبيعة علاقاتها الخارجية وتجنبها أو (تأجيلها) المؤقت لأية ضغوط، وإن كانت غير فاعلة حتى تاريخه.

العدد 1104 - 24/4/2024