دور اليسار التونسي في تصحيح مسار ثورة الياسمين

تعود جذور اليسار التونسي بكل مكوناته إلى الحزب الشيوعي التونسي الذي تأسس عام ،1920 وبقي نشاط الحزب ضعيفاً إلى بداية الستينيات، عندما بادر عدد من الطلبة إلى تأسيس حركة يسارية جديدة في فرنسا باسم حركة (آفاق) تتبنى الاشتراكية والديمقراطية. وبدءاً من عام ،1967 انحازت الحركة إلى فكر ماو تسي تونغ، الأمر الذي أدى إلى حدوث انشقاق داخل حركة آفاق، وبرزت مجموعة عُرفت باسم (الوطنيين الديموقراطيين). وانطلق نشاطها بإصدار جريدة (الشعلة) سنة ،1969 ومن رموزها خالد الفالح الذي كان من أوائل مؤسّسيها، واتهمت قيادة آفاق هذا التيار بأنه (ستاليني). وفي حين لم تخف الحركة الجديدة توجهها الستاليني، دعت إلى التخلي عن المطالبة بتطبيق الاشتراكية مقابل التركيز على ما سمّته آنذاك مقاومة الهيمنة الإمبريالية على تونس، وضرورة إنجاز إصلاح زراعي. لأنها كانت ترى آنذاك أن الطبقة الإقطاعية هي التي تمتلك أغلب الأراضي. وبعد فرار الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن على في 14 كانون الثاني 2011 حاول اليسار التونسي توحيد صفوفه بقيادة شكري بلعيد، وقد أثمرت جهوده بتأسيس الجبهة الشعبية التي ضمت حتى الفصائل البعثية، ولكن عملية اغتياله أدت إلى عرقلة إتمام توحيد صفوف اليسار عرقلة كاملة.

إن الأوضاع الجديدة في تونس وضعت اليسار أمام امتحان التنازع بين الإرادة والقدرة والاستطاعة، فاليسار الذي منحته ثورة الياسمين فرصة الفعل الناجع، بعد عقود من ممارسة النقد والاعتراض على المسارات الخاطئة دون أن تهيأ له فرص الفعل المنظّم في المجتمع التونسي لتغيير الواقع… وبعد أن خلت الساحة السياسية من الإعاقات التقليدية أصبح اليسار أمام خيارات جديدة لكنها مربكة وتستوجب من الفاعلين السياسيين مراجعة جدية لمقومات علاقتهم بالواقع والانتقال المفروض من طور الوعي النقدي إلى طور الفعل الناجع، وقبول الشراكة مع جميع التيارات التقدمية من أجل بناء تونس الحديثة.

سقوط حكم المرشد في مصر… وتهديد عرش النهضة في تونس

وصلت الأوضاع اليوم في تونس إلى مستوى يصح أن نصفه بالمأزق أو الأزمة الشائكة المتكونة من معوقات معقّدة للغاية. فما كان يعد حلاً قبل أشهر قليلة أصبح اليوم مشكلة مفتوحة على سيناريوهات عدة. وما يزيد في حالة التأزم مسألتان اثنتان: الأولى تزايد المؤشرات القوية التي تشير إلى أن الإرهاب قد تمكن من تونس ودخل إليها من أكثر من بوابة. والمسألة الثانية هي ظاهرة الانقسام الحاصل في المجتمع التونسي بخصوص المطالبة بإسقاط الحكومة وحلّ المجلس الوطني التأسيسي.

هذا التأزم والاحتقان في الشارع التونسي انفجر يوم 13 آب الموافق ليوم المرأة التونسية، إذ حاولت حكومة النهضة القيام بعرض قوة في الشارع التونسي كي ترهب المعارضة وتردعها عن الاستمرار في مطالبها، في حين نظمت المعارضة ومنظمات المجتمع المدني مسيرات ضخمة في العاصمة وداخل المحافظات نددت في مجملها بسياسات الحكومة. أما دعا الرئيس المؤقت المنصف المرزوقي فقد دعا المجلس التأسيسي إلى استئناف عمله مقترحاً تشكيل حكومة وحدة وطنية لإخراج البلاد من الأزمة. وقال المرزوقي في خطاب ألقاه في حفل بمناسبة عيد المرأة: إن على المجلس التأسيسي المكلف بصياغة دستور جديد لتونس (أن يرجع إلى عمله… ويعطي دستور البلاد، ويحدد لنا موعد الانتخابات (حتى) تتضح خريطة الطريق). وأضاف (لتكن هناك حكومة وحدة وطنية تمثل فيها كل الأطياف السياسية، وتشارك في صنع القرار وفي التأكد من أن هذه الانتخابات (المقبلة) ستكون حرة مئة في المئة ونزيهة مئة في المئة وأنها لن تشوبها شائبة، وتعطى كل الضمانات لمن يريدونها). ذلك أن رئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر قد أمر بتعطيل عمل المجلس إلى أن تبدأ الحكومة التي يقودها الإسلاميون حواراً مع المعارضة العلمانية. وقال بن جعفر إنه أمر بتعطيل المجلس لتسهيل حل الأزمة السياسية في تونس.

ورغم تصريح مختلف التيارات عن استعدادها لتقديم التنازلات في سبيل الخروج بالبلاد من الأزمة، إلا أن أحداً منهم لم يقدم إلى الآن تنازلات جادة ودقيقة، إذ تصر حركة النهضة على الإبقاء على الحكومة الحالية مع توسيع الائتلاف الحاكم، بينما تتمسك المعارضة بإقالة رئيس الحكومة علي العريض وتأليف حكومة تكنوقراط.

وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده راشد الغنوشي يوم الخميس الموافق ل 15 آب ،2013 شبه السيد الغنوشي الثورة التونسية ب(الشمعة المتبقية في سماء الربيع العربي)، وقال إنه من المبالغة القول إن تونس تعيش مأزقاً سياسياً، بل (البلاد تعرف صعوبات تتعلق باستغلال بعض الأطراف السياسية للمصائب التي تعرفها تونس من إرهاب وبطالة ونقص في التنمية لغاية فرض أجندات سياسية تقصي حركة النهضة من الحكم والحلم برؤية (سيسي) آخر في تونس).

وبشأن الوضع السياسي المتأزم بين الحكومة والمعارضة، قال الغنوشي إن (مدخل الحوار مع المعارضة لن يكون عبر حل الحكومة). وأشار إلى ما سماه (خيالات ماركسية قديمة) تسعى إلى استيراد الانقلابات. وقال إن ما حدث في مصر بات يعطي مفعولاً عكسياً في صفوف التونسيين وأصبحوا على حد تعبيره (خائفين من نقل السيناريو المصري إلى تونس). وعبر الغنوشي عن استعداد حركة النهضة للقبول بروزنامة سياسية محددة تكون ملزمة لجميع الأطراف السياسية أهم تفاصيلها استكمال تشكيل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في ظرف أسبوع من استئناف عمل المجلس التأسيسي (البرلمان)، والمصادقة على الدستور والقانون الانتخابي قبل نهاية شهر سبتمبر/أيلول المقبل، إلى جانب استكمال أشغال المجلس التأسيسي قبل 23 تشرين الأول المقبل، وتحديد موعد للانتخابات قبل نهاية سنة 2013. وقال إنه مستعد للتحاور مع كل الأطراف السياسية من دون استثناء وبضمن ذلك حركة نداء تونس، المنافس العنيد لحركة النهضة في معظم استطلاعات الرأي الأخيرة.

إن المعارضة عدّت هذا البيان (إعلان حرب) على الإرادة الشعبية، الأمر الذي جعلها تشن هجوماً عنيفاً على حركة النهضة بعد أن أعلن زعيمها رفضه القاطع تشكيل حكومة إنقاذ، والاستجابة لمطالب المعارضة. وشدد على أن الحكومة الحالية التي تقودها حركته لن تحل، لكنه دعا إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية من الأحزاب الراغبة في المشاركة.

وقد أكد الأزهر العكرمي القيادي في حركة (نداء تونس) أن زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي مُصرّ على النظر بنظارات سود تمنعه من رؤية الواقع، وهو يتحدث عن رغبات لا عن واقع، في تصريحاته التي أصر فيها على عدم تنحي الحكومة. وشدد العكرمي على أن المعارضة ستواصل الضغط مع الشعب الذي يطالب بإسقاط الحكومة قائلاً (يجب عليهم أن يرحلوا بأقل التكاليف).

وقال زياد الأخضر، الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد، إن الغنوشي أعلن (حرباً شعواء) في وجه القوى التقدمية والديمقراطية بعد رفضه لمطلب حلّ الحكومة وتشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة عن الأحزاب. وأضاف أن راشد الغنوشي تعمد استهداف القوى المعارضة برفضه للمطالب التي تقدمت بها، وأهمها تشكيل حكومة كفاءات وطنية بعد الفشل الذريع للحكومة التونسية بقيادة حركة النهضة في إدارة المرحلة الانتقالية.

وفي السياق ذاته، قال القيادي في الجبهة الشعبية منجي الرحوي إن تصريحات الغنوشي تهدف إلى إظهار نوع من التماسك لا غير، وأنه يريد ربح الوقت لأن الشعب فقد ثقته في الترويكا الحاكمة.

لا شك في أن مصير الرئيس المصري المعزول محمد مرسي قد تحول إلى كابوس مزعج يقض مضاجع الجيل الأول من حكام (الربيع العربي) الذي بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة. وما يصدر من خطابات للسياسيين التونسيين في الائتلاف الحاكم، بعد الحدث المصري، يتسم بالذعر والخشية أكثر مما هو تعبير عن ثقة بالنفس أو استناد إلى شعبية طاغية لهذا الحزب أو ذاك. والخوف الحقيقي من (تمرد تونس) أو الإيهام بتحديها هو إمعان في الخطأ الكارثي الذي سقط فيه مسار الانتقال الديمقراطي التونسي وقبله المصري، لأن النجاة في الحالتين كانت تفترض أن تكون بالانفتاح على الجميع وعدم سعي أي الطرف إلى الهيمنة على الآخرين، والتقدم إلى مصالحة وطنية تجمع الكل ولا تقصي أحداً، وإشراك الجميع في صياغة مستقبل البلاد تجنباً لاستعادة سياسة الاستفراد بالقرار. ولكن هذا لم يحصل في مصر وأوصل إلى التمرد وإسقاط الرئيس المعزول، ولا شيء يمنع من تكرار السيناريو نفسه في تونس، إذا لم تتخذ خطوات حاسمة للتقريب بين الفرقاء والابتعاد عن خطابات التفخيم والتقزيم، والتخوين والتكفير التي تهيمن على المشهد السياسي التونسي.

منذ أن بدأ الانقسام السياسي يدبّ بين صفوف الشعب التونسي، بُحت أصوات الصادقين من التحذير من سيناريو أسود بدأ يلوح في سماء المنطقة. وعوضاً من أن يتم التدارك والتسريع بردم الهوة ووأد الانقسام في مهده، طغى خطاب الاستقطاب الذي بلغ أوجه هذه الأيام. فعلى مسرح الأحداث هناك حركة النهضة الإسلامية وأنصارها يتغنون بالشرعية، ينظمون أشعار الغزل بديمقراطية الصندوق، وعلى الطرف الآخر تتعالى أصوات المعارضة من الأحزاب اليسارية والليبرالية منادية بإسقاط المجلس التأسيسي وحلّ الحكومة، وبين الطرفين تلعب الأيديولوجيا ومصالح الغرب لعبتها القذرة، ويضيع شعب عوّل على نخبة سياسية ظنها ناضجة لكنها خيبت أمله وأعادته إلى مربع الثورة الأول.

عجزت حركة النهضة عن إيجاد حلول للأزمات الاقتصادية المتراكمة والمتفاقمة، بخاصة تزايد المديونية وتفشي البطالة بين صفوف الشباب، وأدى الانفلات الأمني وأعمال السلب والنهب والقتل والاغتيالات السياسية إلى إلحاق ضرر فادح في السياحة التونسية التي كانت المصدر الأساس لدخل البلاد واقتصادها.

لقد كانت وعود حركة النهضة للتونسيين مغرية، لكن الأمور جرت بما لا تشتهي السفن، وباتت تلك الوعود في خبر كان. والأمر لا يعود إلى أن تركة زين العابدين بن علي ونظامه كانت ثقيلة وكبيرة وحسب، بل وإلى أن الحركة عوضاً عن مواجهة تلك القضايا بمسؤولية اختلقت لنفسها أعداء لمشروعها المزعوم باسم الإسلام متجاهلة أنها تنشط في مجال ومحيط سياسي وليس دينياً.

بعد عامين ونصف العام من (ثورة الحرية والكرامة) التي انطلقت شرارتها في سيدي أبو زيد لا تزال تونس تسعى إلى البحث عن استقرارها الأمني والسياسي، وهي حصيلة كارثية تتحمل حركة النهضة وزرها لاتباعها سياسة المخادعة في شأن الائتلاف الوطني والجنوح إلى توسيع (الصبغة الإخوانية) في السلطة وغيرها من التوجهات والممارسات التي قادت إلى حقيقة مفادها أن (الأزمة لاتزال مفتوحة وتتجاوز مواقع السلطة إلى الاقتصاد والاجتماع، خصوصاً أن المجتمع التونسي قد ارتضى العلمانية منهجاً وهو يعيشها منذ أكثر من نصف قرن من دون أي انتقاص في العادات والتقاليد الشرقية التي تميز مجتمعات المنطقة).

حزب العمال التونسي يقرع ناقوس الخطر في المجتمع التونسي

نددت قوى المعارضة التونسية بما أسمته (التهديد المعلن) لزعيم حركة النهضة الإسلامية الحاكمة، راشد الغنوشي، للشعب التونسي بالأحداث الجارية في مصر، معتبرة إياها (هروباً من المطالب الشعبية والسياسية للتونسيين، وتخويفاً للمعتصمين من تكرار السيناريو المصري).

وفي هذا السياق، قال حزب العمال التونسي (يسار)، أحد مكونات جبهة الإنقاذ الوطني، في بيان له اليوم: (إن تصريح السيد الغنوشي يعكس الإحساس بالعزلة لدى حركة (النهضة)، وانفصامها عن نبض الشارع وصوت الشعب، وعن الأغلبية الساحقة من الأحزاب والمنظمات الاجتماعية والمدنية، بعد أن أثبتت معاداتها وفشلها في خدمة تطلعاته، وبعد أن تأكد أنها إنما تعمل على إرساء استبداد جديد بوضع يدها على مفاصل القرار الإداري والقضائي والإعلامي والأمني، وبالاستمرار في نفس الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لم يجن منها شعبنا سوى الفقر والبؤس والفاقة).

وأضاف الحزب: (إن منطق التخويف لن يفت عزيمة الشعب التونسي، وإن الضغط النفسي على الجماهير بما يجري في الشقيقة مصر والهادف إلى إرباك الهبّة النضالية الشعبية غير المسبوقة ضد حركة النهضة لن يكون بمقدورها إفشال حملة (ارحل) و(أسبوع الرحيل) اللذين دعت إليهما جبهة الإنقاذ).

واتهم حزب العمال حركة النهضة بأنها (تثبت يومياً أنها مجرد فصيل من التنظيم العالمي للإخوان الذي ينخرط اليوم في استراتيجية تخريب النضالات الشعبية لمزيد إخضاع البلدان العربية والإسلامية وإلهاء شعوبها بموجات العنف والإرهاب والفتنة الطائفية وتمزيق النسيج الاجتماعي والثقافي).

لا يمكن فصل المسار التونسي عن الانحدار المتسارع للحالة الإخوانية التي سيطرت على مسرح الأحداث لدول الربيع العربي، ومع ترنّح النموذج التركي نتيجة اصطدام أردوغان مع فئات واسعة من الشعب التركي، سقط نموذج (الأب الملهم أو الأخ الأكبر)، والسقوط المدوي لحكم المرشد في مصر، بعد أن عجز عن القيام بأي عملية إصلاحية والاكتفاء بمحاولة أخونة إدارات الدولة وشتم الخصوم، بدلاً من العمل على بناء الدولة وحماية أمنها القومي ، والاعتناء بالاقتصاد المصري لتجاوز الأزمة الخانقة التي تجثم فوق صدر المواطن المصري والتي أصابته في لقمة عيشه.

اليسار التونسي تنبّه إلى هذه الأخطار، وتجاوز مرحلة الندب على الموتى، بعد خسارته لقامات كبيرة خلال مدة وجيزة، بعد أن سار رموز هذا التيار على درب الجلجلة التونسية مقدّمين العِبَر للغيورين على الحرية، والمثال للباحثين عن مستقبل مشرق بعيداً عن التطرف والدكتاتورية، والتسلط والعبودية.

العدد 1104 - 24/4/2024