أنتونين دفوراك سفيراً لوطنه في عالم النغم

شهد يوم 20 تموزسنة 1969 نجاح رحلة أبولو 11 بالهبوط على سطح القمر ليضع رائد الفضاء نيل أرمسترونج قدمه على التربة القمرية فيما اعتبر يومئذ خطوة عظيمة للبشرية، وقد اصطحب أرمسترونج في رحلته الطويلة تسجيلاً للسيمفونية التاسعة للمؤلف التشيكي دفوراك المسماة (من العالم الجديد)، الذي ربما كان أقصى طموح مؤلفها هو أن تصل إلى أصقاع الأرض كافة، ولم يفكر يوماً أنها يمكن أن تغادر الكوكب الأزرق.

ولد أنتونين دفوراك سنة 1841 في مقاطعة بوهيميا التي كانت تتبع إمبراطورية النمسا، وهي الآن جزء من جمهورية التشيك. وقد ظهرت ميوله الموسيقية مبكراً بتأثير من والده الموسيقي وعازف الأرغن، وهو ما أهله للعمل عازف كمان في الأوركسترا الوطنية في بوهيميا عندما كان في التاسعة عشرة من عمره ليبدأ بعدئذ التأليف والتدريس الموسيقي حتى سنة ،1873عندما تزوج وانتقل للعمل عازف أورغن في إحدى كنائس براغ، ما وفر له مكانة اجتماعية مرموقة ودخلاً جيداً.

 نالت مؤلفاته في تلك الفترة اهتمام المؤلف الألماني الكبير جون براهمز الذي مد له يد المساعدة، وأعطاه من خبرته، فضلاً عن الدعم الذي تلقاه من أحد أشهر نقاد عصره وهو إدوارد هانسليك. انتقل سنة 1880 إلى لندن التي كتب لها سيمفونيته السابعة بعدما أصبح اسماً معروفاً في الأوساط اللندنية. ثم تنقل بين لندن وبطرسبرغ وبراغ، لتحمله أخيراً إحدى السفن إلى الولايات المتحدة حيث أصبح مديراً للمعهد الموسيقي الأمريكي في نيويورك، المدينة التي شهدت أشهر إبداعاته وأكثرها انتشاراً، وهي السيمفونية التاسعة، التي سمَّاها (من العالم الجديد) والتي ألفها بتأثير من موسيقا الهنود الحمر. وبعد ثلاث سنوات عاد إلى براغ وأمضى فيها بقية حياته حتى سنة 1904 عندما توفي تاركاً إرثاً موسيقياً ضخماً وعدة مؤلفات غير مكتملة.

   استوحى دفوراك غالبية أعماله من الموسيقا التراثية التشيكية بشكل خاص والسلافية بشكل عام، مدفوعاً بعاطفة وطنية كبيرة، ساعد على إذكائها نضال الشعب البوهيمي للتحرر من إمبراطورية النمسا. وقد تضمنت بعض أعماله ثيمات من أغانٍ وطنية كانت محظورة في تلك الفترة. وقد تأثر حينذاك بأعمال الموسيقي بدريتش سميتانا الأب الروحي للموسيقيا التشيكية الحديثة. لذلك اكتست غالبية أعماله بالطابع الفولكلوري الذي أجاد توظيفه في مختلف مؤلفاته، من سيمفونيات ورباعيات وترية ورقصات وأوبريهات وغيرها، نذكر منها: (ثلاث رابسوديات سلافية)،(السيمفونية السابعة)، (أغانٍ علمتني إياها أمي)، أوبرا (ديمتري). وربما كانت تلك المهارة في تضمين الألحان التراثية في أعماله هي التي مكنته من وضع شيء من روح موسيقا الهنود الحمر في سيمفونيته التاسعة التي احتلت المرتبة الأولى في استفتاء أجرته إذاعة ( إي بي سي كلاسيك إف إم) سنة 2009 لأفضل 100 عمل في تاريخ الموسيقا، متقدمة على السيمفونيتين التاسعة والسادسة لبيتهوفن.

لكن الاستطلاع الآنف الذكر يضعنا مجدداً أمام ظاهرة التفاوت الكبير بين المستمعين في الغرب ونظرائهم في سورية، حيث تقبع أعمال دفوراك وغيره من المؤلفين في مكتبات موسيقية يمتلكها قلة من المهتمين بالموسيقا وهي ظاهرة تحتاج إلى المزيد من الاهتمام، لأن غياب المستمع الجيد في بلد ما ينعكس سلباً على الأعمال الموسيقية التي يتم تقديمها في الأوساط الفنية. وبالتالي هناك حاجة ملحة لبناء أجيال مثقفة موسيقياً وقادرة على التمييز بين الغث والسمين في عالم الموسيقا. والذي يتم بوضع المستمع على رأس أوليات برامج وزارة الإعلام ووزارة التربية لإعطاء التربية الموسيقية الدعم المطلوب خلال المراحل الدراسية المبكرة، وتخصيص ساعات بالإذاعة لتعريف المستمع بالأعمال الأوركسترالية المعروفة، وإعادة إحياء برامج تلفزيونية مثل برنامج (لغة العالم) الذي كان يقدمه المرحوم فاهيه تمزجيان، وعدم الاكتفاء بإلقاء اللوم على القنوات المروجة للفن الهابط والفنانين الدخلاء على الموسيقا. بل يجب تذكر كيف خاطب أرون كوبلاند قراء كتابه (كيف تتذوق الموسيقا؟): إن مستقبل الموسيقا في أيدينا.

العدد 1105 - 01/5/2024