حوار هادئ لمسألة شائكة

بعد أن اتخذت الأزمة السورية مسارات ضبابية إثر تحول الحراك الشعبي السلمي إلى مواجهة عسكرية، وتدخُّل القوى الخارجية على خط هذه الأزمة، لم يحصد السوريون من تداعياتها إلاّ الخوف والقلق وفقدان الموارد، وسيلاً من الدماء التي تنزف كل يوم، وتهديم المدن والمنازل والمصانع والبنى التحتية، والتهجير القسري الذي جعل حياة المهجرين جحيماً لايطاق، فأي (ثورة) في تاريخ الشعوب اتخذت مثل هذه المسارات.. وسببت مثل هذه الخسائر؟!

عندما تنعدم الآفاق.. وتسد السبل.. أمام الأساليب التي يستخدمها الساعون إلى التغيير في بلد ما، رغم مشروعية مطالبهم، فهذا يعني أن الظروف الثورية لم تنضج بعد، وأن برامجهم السياسية والاجتماعية لم تلقَ التأييد المطلوب بين القوى السياسية والاجتماعية كي تتحول إلى فعل ثوري يعبر عن مصالح الأكثرية، وأن عليهم الانتظار كي يعدّلوا هذه البرامج لتصبح أكثر قابلية للتبني، وكي يتحول ميزان القوى السياسية والشعبية في غير صالح السلطة القائمة، فألف باء الثورة هي إتقان اختيار لحظة التقدم، ولحظة التراجع. أما استمرارهم بالطريقة ذاتها رغم فشلهم في إحداث التغيير، فيعني الذهاب إلى المجهول. وفي الإرث الثوري العالمي: المجهول هو إجهاض الثورة.. هو الفشل الذريع، هو دفع أثمان لمغامرة غير محسوبة النتائج. والمصيبة أنهم ليسوا وحدهم من يدفع هذه الأثمان، خاصة عندما تتحول مساراتهم من الاحتجاج والإضراب، إلى حمل السلاح ضد الدولة -وفي الحالة السورية- طلب المساعدات من الخارج.. بل دعوته إلى التدخل العسكري المباشر، وعندما تتحول الشعارات ذات المحتوى الديمقراطي، إلى شعارات إقصائية، تمثل مرجعية سلفية تناقض التوجه العام للقوى السياسية والاجتماعية في البلاد.

صحيح أن نظرية الثورة ومرجعياتها الفلسفية والسياسية ليست صنماً ينبغي تقديسه، بل تغتني في كل يوم -كما الحياة- بكل ما هو جديد، مثل استغنائها عن العنف كأسلوب وحيد لتنفيذ التغيير، لكن الصحيح أيضاً أن الاستعانة بالخارج.. والتحريض على تدخله على مسار هذه (الثورة) بدلاً من تسريع التراكم السياسي والاجتماعي الداخلي المُؤهل للتغيير، لا يمكن اعتباره إضافة جديدة تفرضها الظروف، بل هو ببساطة شديدة تحويل الحراك الذي بدأ تحت شعارات مشروعة من أجل التغيير، إلى خيانة علنية لإرادة التغيير، والانتقال إلى صف أعداء الوطن والشعب، سواء قصد هؤلاء (الثوار) ذلك أم لا.

العلاقة بين (محلية) الظروف الثورية، وملاءمة المناخ (الخارجي) لايعني إحلال الخارج – المتمثل بالرأي العام الإقليمي والدولي والدعم السياسي.. وربما في بعض الأحيان بالدعم اللوجستي والمادي – مكان الفعل الداخلي المستند إلى مشاركة أصحاب المصلحة العليا في التغيير. هنا تصبح (الثورة) مختطفة.. فتسقط الشعارات.. وتسطّح المطالب.. وتُختزل المآلات بمسألة واحدة: القضاء على السلطة القائمة بقوة السلاح، دون تفويض شعبي.. واستلام المقاليد، ولو تم ذلك تحت راية الاحتلال الأجنبي المباشر.

إن شجب الهيمنة وسيطرة حزب على الدولة والمجتمع.. واستنكار القمع، ورفع شعارات سياسية ذات محتوى ديمقراطي واجتماعي عام، لايكفي ليتحول الحراك إلى فعل جماهيري ثوري، تشارك فيه الطبقات والفئات الاجتماعية (المهمشة)، والنخب الفكرية والثقافية (المستبعدة). فالقضية هنا هي استحضار البديل، هذا الحزب.. أوالتحالف الذي سيقدم، إضافة إلى (الديمقراطية) وصناديق الاقتراع، النهج السياسي الوطني المستقل، المعادي للهيمنة والاستعمار، سيقدم التوزيع العادل للثروة.. والتنمية الشاملة، البديل الذي يضمن عدم خروج (الاستبداد) من الباب.. والعودة من (الطاقة) أشد قسوة.. وأكثر تطرفاً، البديل الذي يوازن -دون مقايضة- بين مصالح الطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة المشاركة في (الثورة).

(على ألواح الشمع لاتستطيع كتابة أي شيء جديد ما لم تمحُ القديم وتزيله، أما مع صفحات العقل فالأمر ليس كذلك، هنا لاتستطيع محو القديم ما لم تنجز كتابة الجديد). (فرانسيس بيكون).

في المنعطفات الكبرى، مَن يضع الأهداف.. ومَن يحدد الأوّليات؟ مَن يقطف الثمار.. ومَن يدفع الثمن؟

لن نجد الجواب إلاّ بالبحث عن الحامل الاجتماعي الرئيسي في هذه الانتفاضة أو تلك، والقوى السياسية التي تعبر عنه، والأهداف المعلنة والمضمرة، والحلفاء في الداخل والخارج، والأساليب المستخدمة. إنها بديهيات أكدتها الثورات الكبرى، وما تخللها من انتصارات وهزائم. مشروعية المطالب هنا رغم أهميتها لا تضمن النجاح، المسألة تتعلق بالقوى المحركة وقيادتها.. ببرنامجها السياسي والاجتماعي والإنساني.. باختيارها اللحظة التاريخية المناسبة، كما تتعلق بطبيعة التغيير القادم وجوهره، مَن هي الفئات الاجتماعية المستفيدة من هذا التغيير؟ مَن سيرفع.. وبمن سيهوي؟ فالهروب من تحت الدلف إلى تحت المزراب ليس انتصاراً، بل هو نكسة لمن خرج مطالباً بغد أفضل.

(طالبنا بالديمقراطية، لكن ما حصلنا عليه هو السوق الريعية). (كتابات على الجدران في وارسو).

التغيير المطلوب – كما أثبتت مسارات الأزمة السورية حتى الآن- هو التغيير السلمي، المستند إلى النضال السياسي والنشاط اليومي للقوى السياسية والاجتماعية، وبضمنها قوى المعارضة الوطنية. السوريون أنجزوا أكثر من خطوة في هذا الاتجاه منذ آذار من العام المنصرم، وقد تأسست مفاهيم جديدة في الحياة العامة السورية، إذ تراجعت مخاوف الناس رغم استمرار الاعتقالات، وأصبح الحديث عن الديمقراطية وحقوق الفرد التي أقرتها المواثيق الدولية، موضوعاً للندوات الإعلامية المختلفة، وبدأت النقابات باتخاذ خطوات في العودة إلى نضالها المطلبي، بعد عقود من (النضال) السياسي، وظهرت أصوات وأقلام تمثل جهات حكومية وحزبية تنتقد التفرد والهيمنة والفساد وتدخّل الأجهزة الأمنية في الحياة العامة . الخطوة الأكثر إلحاحاً، والتي مازالت تتعثر حتى الآن، هي الإسراع بعقد مؤتمر الحوار الوطني الشامل، الذي يضم جميع القوى السياسية والاجتماعية والدينية والإثنية، وبضمنها قوى المعارضة الوطنية بجميع أطيافها، للتوافق على تحديد ملامح مستقبل سورية الديمقراطي، وتنفيذ إصلاحات هيكلية في النظام السياسي للبلاد، تحقق التعددية السياسية، وترسم الاستحقاقات الملحة كي تتسع سورية جميع السوريين على اختلاف انتماءاتهم السياسية والدينية والإثنية، وتحقق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتوازنة، وتطور القطاعات الاقتصادية، وتلبي مصالح الكتلة الشعبية الكبرى المؤلفة من العمال والمزارعين والمنتجين الصغار وفئات الشباب، وتحقق المساواة بين الرجل والمرأة، وتنمي المناطق المتخّلفة والمجتمعات المحلية.

في نظريات الثورة يسعى الثوريون دوماً إلى البناء.. إلى نظام أكثر تقدمأ وعصرية.. وعدالة.

العدد 1104 - 24/4/2024