أحجار على رقعة الشرق الأوسط الجديد… تركيا والإخوان

يبدو أن تصريحات رجب طيب أردوغان الغاضبة، على ما حدث ويحدث في مصر، ودعوته الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية لمقاطعة مصر، وإسقاط النظام الجديد، وأخيراً اتهامه إسرائيل بأنها وراء الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين، لتشويه سمعة النظام الجديد، وبالذات قائد الجيش الفريق الأول عبد الفتاح السيسي، متناسياً العلاقات الدبلوماسية والتجارية، إذ أصبحت إسرائيل المنفذ الوحيد لتركيا على المنطقة، والتعاون العسكري بين بلاده والعدو الصهيوني، وبأن تركيا أول بلد إسلامي اعترف بالعدو الصهيوني، وانضم لحلف الناتو في عهد عدنان مندريس ذي الميول الإسلامية، وعمل مع أمريكا للإطاحة بعبد الناصر. كل هذه الأمور وأكثر، تؤكد حجم الخسارة التي لحقت بالمشروع التركي .. وعمق الألم الذي ألمّ بأردوغان وحزبه، بعد أن رأى أن حلمه بدأ يترنح تحت الضربات القوية والحاسمة للجيش المصري، الذي قرر أن يُنهي حكم الإخوان ويحفظ وحدة البلاد، مستنداً إلى قاعدة شعبية عريضة، وتفويض لم يحظ بمثله زعيم مصري (أكثر من 30 مليوناً خرجوا إلى الشارع استجابة لنداء الجيش في 26 تموز 2013) كما أكدت مختلف وسائل الإعلام المصري والدولية.

سقوط الإخوان في القاهرة، وتصاعد حدة تصريحات أردوغان، كشف الوجه المخفي لمشروع الإخوان، المشروع الذي حاول حزب العدالة والتنمية التركي تقديمه إلى العالم نموذجاً لإسلام حضاري يرتكز على التعاليم الصوفية، وخصوصاً تعاليم شمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي. الإسلام الذي يُعلي من قيمة الإنسان بغض النظر عن دينه أو جنسه أو عرقه، لنرى أنفسنا أمام نموذج إقصائي يستمد من تعاليم حسن البنا وسيد قطب مبادئ الحاكمية ورفض الآخر المخالف فكرياً وعقائدياً، فما بالك بالمخالف دينياً. هذا التوجّه بدأ يتوضّح بعد أن بدأ الإخوان يهاجمون، على نحو منظم، الممتلكات العائدة للمواطنين المصريين الأقباط، بحجّة أنهم كانوا وراء سقوط نظام حكم الإخوان في القاهرة.

وقد طالبت منظمة (هيومن رايتس ووتش) في بيان لها السلطات المصرية باتخاذ الخطوات اللازمة لحماية الكنائس والمؤسسات الدينية ضد هجمات من وصفتهم (بالغوغاء). وقالت المنظمة في بيان لها اليوم إنه منذ 14 أغسطس/آب ،2013 (أُحرقت ونُهبت عشرات الكنائس والممتلكات المسيحية في جميع أنحاء البلاد، مما أسفر عن مقتل أربعة أشخاص على الأقل). وطالبت السلطات المصرية بالتحقيق في سبب غياب قوات الأمن وعدم تدخلها في ظل هذه الهجمات.

لكن كما يقال: ربّ ضارةٍ نافعة، فقد عرفت مصر من يقف في خندقها ويقاتل معها، ومن يتربّص بها ويعمل ضدها. وبات لدى المسؤولين في مصر الآن خريطة سياسية وإعلامية واضحة تماماً تكشف الصديق والشقيق الحق، كما تكشف العدو. وعرفت أيضاً من يمكنه أن يتحمل المسؤولية في اللحظات الحرجة، ومن لا يقدر إلا على الهروب والقفز من السفينة بدافع أناني باحثاً عن مجد شخصي. وما أكثر الضرر الذي تعرضت له مصر طوال الشهرين الماضيين، والذي وصل إلى قمته يوم الأربعاء  14 آب ،2013 والذي شهد الفصل ما قبل الأخير من ملحمة الجماعة التي حلمت بفتح مصر طوال80 عاماً، فظنت أنها قادرة على تحقيق حلمها على رأس أسنة الرماح التركية المدعومة من الناتو والمصحوبة بالدعايات السوداء من قنوات إعلامية عربية حفرت اسمها في التاريخ كقنوات باعت شرفها وتنكرت لرسالتها وحرضت على سفك دماء أبناء جلدتها. وحين قدر لها الوصول إلى السلطة في لحظة عبثية غير قابلة للتكرار، لم تتمالك نفسها وتصورت أنها قادرة على هضم شعب قوامه 90 مليون نسمة لديه تراث حضاري – ديني، وتاريخي – مدني يمتد آلاف السنين، وحين بدا لها استحالة تحقيق ما تسعى إليه، لم تكترث كثيراً واستمرت في عنادها، وتصورت أن لديها قدرات خاصة تمكنها من معاقبة كل الشعب وكل المؤسسات، وأن تخلق مؤسسات موازية، وأن ترفع السلاح في وجه الجميع، مستعينة في ذلك بتنظيم عالمي عابر للدول وبعض الحكومات الخاضعة له وعدد كبير من المرتزقة والإرهابيين من جنسيات مختلفة زرعوهم في مناطق محددة في مصر ليصار إلى استخدامهم عندما يحين الوقت.

حسابات تركيا بعد سقوط الإخوان

بدا واضحاً في العام المنصرم أن تركيا أضحت اللاعب الإقليمي الأبرز على ساحة الشرق الأوسط بعد وصول حركة الإخوان المسلمين، فهي من ناحية أضحت قبلة تيارات الإسلام السياسي وقائدته، بدلاً من حركة الإخوان المسلمين، التي هي الحركة الأم لكل جماعات الإسلام السياسي عبر العالم، لا سيما في ظل نجاحاتها السياسية والاقتصادية وجاذبية النموذج الإسلامي الذي قدمته. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أضحت أنقرة بمقتضى ذلك الفاعل الإقليمي الأبرز بسبب تطور علاقاتها السياسية والاقتصادية والحزبية مع حزب الحرية والعدالة، والتي شكلت الأساس الذي أقامت عليه علاقاتها مع جميع أفرع حركة الإخوان على المستوى الإقليمي، سواء في ليبيا أو تونس، أو العديد من الدول العربية الأخرى.

لذلك، فإن خسارة تركيا لأهم حليف إقليمي بعد سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر، يعني أن المشروع التركي الإقليمي كله أصبح على المحك، إن لم يكن قد انهار بالفعل، وذلك بفعل نظرية (كرة الثلج) أو (البيوت الخشبية) التي أسماها وزير الخارجية التركي (الدومينو السلبي)، لما لذلك من تداعيات وخيمة على مستقبل حركات الإسلام السياسي على الساحات المجاورة، وعلى رأسها تركيا ذاتها. والتي بات يواجه حزبها الحاكم (حزب العدالة والتنمية) أسئلة صعبة حول مستقبله السياسي بعد تنامي المعارضة الداخلية في صورتها الشعبية والحركات الاحتجاجية التي عرفت طريق الشارع، ولن تكون عملية إعادتها إلى وضعية ما قبل احتجاجات ميدان تقسيم الأخيرة بالمهمة السهلة.

يضاف إلى ذلك المشهد المصري في حال شهد في صورته الجديدة حالة من الاستقرار فقد يكون ملهماً لجيوش المنطقة للعب أدوار سياسية في حماية الدولة الوطنية، في مواجهة النخب الحاكمة ذاتها، وهو تهديد لا تقوى القيادة التركية على تحمله، إذ إنه يمثل الكابوس للنخبة السياسية الحاكمة في أنقرة الآن.

وفي المقابل، فإن سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر وما رافقه من تطورات ومواقف تركية واضحة، جعلت أنقرة تبدو وكأنها في مواجهة دول المنطقة كالمروّج لحركة الإخوان، بما يجعل سقوط هذه الجماعة يمثل سقوطًا للصورة التي رسمتها تركيا لهذه للجماعة كتنظيم يتسم (بالاعتدال) و(البراغماتية) وحاولت تسويقها للغرب. الأمر الذي جعلها بالتبعية في موضع شك العديد من الدول العربية والإقليمية، خصوصاً فيما يتعلق بطبيعة أهدافها الحقيقية حيال المنطقة، لا سيما أن عودتها للاندماج في منطقة الشرق الأوسط ارتبطت بمشكلات داخلية في معظم دول المنطقة كانت تركيا أحد مسببات هذه المشكلات بسبب مناصرتها لبعض القوى الداخلية، مما عرّضها لمشكلات في العراق ولبنان وسورية والأراضي الفلسطينية، وأخيراً مصر.

المسار التصعيدي

فصول التوتر في العلاقات المصرية مع تركيا لم تنجلِ بعد، إذ إنها مرشحة للتصاعد على نحو أوضح وأكبر في الفترة المقبلة، ويمكن القول إن العلاقة باتت طردية بين استقرار مصر وتوتر العلاقات السياسية والدبلوماسية مع تركيا. فالقيادة المصرية باتت تدرك مدى وحجم الدور السلبي الذي تلعبه تركيا على الساحة المصرية الداخلية في مواجهة المؤسسة العسكرية المصرية، وعلى الساحة الخارجية من خلال محاولة نزع الشرعية عما قام به القائد العام للقوات المسلحة المصرية، عبر الترويج دولياً وإقليمياً بأن ما قام به الفريق الأول عبد الفتاح السيسي يمثل انقلاباً على رئيس مدني منتخب، دون أن تأخذ في حسبانها التداعيات السلبية المحتملة لاستمرار مرسي في الرئاسة على حالة السلم والأمن الداخلي، وهو الملف الأهم الذي تُعنى به القوات المسلحة المصرية تاريخيّاً قبل غيرها من مؤسسات الدولة، ومن ضمنها حتى مؤسسة الرئاسة.

ومن هنا فإن الصراع بين الطرفين أصبح (صراعاً صفرياً) بمعنى أن مكسب كل طرف يمثل بالضرورة خسارةً من رصيد الطرف الآخر. ذلك أن تركيا وضعت نفسها في خندق الإخوان دون أن تراعي ضرورة الحيطة من الخسارة الإقليمية في حال نجاح الجيش المصري في العبور بمصر من هذه المرحلة الصعبة. لذلك فهي تحاول التضييق عليه، وإعطاء حركة الإخوان في مصر جرعات من الأمل تنقل هذه الحركة من (خشبة الموت السياسي) إلى (سرير المرض المؤقت).

هذا الأمر يزيد الصعوبة أمام الجيش وأجهزة الأمن والقيادة المصرية الجديدة في ضبط الأمور، غير أنه في الوقت نفسه يجعل تركيا تقضي على مشروعها الإقليمي بنفسها في قيادة منطقة الشرق الأوسط، لسقوطها في الامتحان الأصعب، سواء في مواجهة القوى الشعبية والحزبية المصرية، أم في مواجهة أكبر وأهم جيش عربي. فضلاً عن التداعيات الوخيمة لذلك على صورة تركيا الإقليمية، ومستقبل علاقاتها مع قوى عربية تقليدية كبرى، ترى أن مفتاح الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط ومركزه تمثله القاهرة لا تركيا.

تركيا.. من صفر مشاكل إلى صفر أصدقاء!

في مطلع الألفية الثالثة، اعتقد السياسيون الأتراك بأنهم قد توصلوا إلى الوصفة المطلوبة من أجل النجاح في السياسة الخارجية، فقد حظيت فلسفة (صفر مشاكل مع الجيران) التي تبنتها الخارجية التركية في إعادة رسم العلاقات الدولية بالإشادة في داخل تركيا وخارجها على حد سواء، فقد أعادت فيه أنقرة انخراطها مع الشرق الأوسط بعد نصف قرن من الابتعاد، وبدأت بمد جسور التواصل مع دول هي من الأعداء التاريخيين للأتراك كاليونان وأرمينيا. فقامت بتوسيع علاقاتها التجارية مع الدول العربية، إضافة إلى إيران؛ ورفعت قيود التأشيرة عن البلدان المجاورة، بل وساعدت على التوسط في بعض من أصعب نزاعات المنطقة، إذ توسطت في المفاوضات بين سورية وإسرائيل، و(فتح) و(حماس)، وباكستان وأفغانستان.

وبعد بضع سنوات فقط على ذلك، بدأت تلك الوصفة، التي كانت ناجحة وموثوقة في يوم من الأيام، تظهر قصورها في أعقاب (الربيع العربي) والأحداث التي تلته، إذ أحرق رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان كل جسوره مع النظام الجديد في مصر، ودخل في جدالات مع معظم البلدان العربية الأخرى على خلفية موقفه من الرئيس المعزول محمد مرسي، وبدأ حرباً كلامية غير مبررة مع إسرائيل.

ففي بداية (الربيع العربي)، كانت مصر هي المحور الرئيسي لسياسة تركيا الخارجية في العالم العربي. فعندما زار أردوغان القاهرة في أيلول ،2011 عقب الثورة التي أطاحت بنظام مبارك، استُقبل بحفاوة كبيرة، لأنه كان أول زعيم عالمي كبير دعا مبارك إلى التنحي عن السلطة. غير أن ذلك تغير الآن: فوسط هذا الكباش السياسي، قامت كل من تركيا ومصر بسحب سفيرها لدى الأخرى، وبدأ أردوغان بانتقاد الحكومة الجديدة في القاهرة على نحو متكرر في خطاباته السياسية.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد قام أردوغان بجر إسرائيل أيضاً إلى النزاع، زاعماً أن إسرائيل كانت (وراء) عزل مرسي في مصر. أما الدليل على ذلك، كما أكده مكتبه لاحقاً، فهو مقطع فيديو يعود ل2011 تظهر فيه وزيرة الخارجية الإسرائيلية وقتئذ تسيبي ليفني والفيلسوف الفرنسي بيرنارد هنري ليفي، وهما يناقشان (الربيع العربي) وما بعد (الربيع العربي).

وهذه النزاعات جعلت المراقبين للسياسة الخارجية التركية يتساءلون عما إن كانت مقاربة أردوغان لأحداث المنطقة قد بدأت تُضعف فعاليته. فقد كان على أنقرة أن تلقي بثقلها قبل تنحية (الإخوان المسلمين) من السلطة بوقت طويل، ذلك أن (تركيا ركزت كثيراً على قصة نجاح الديمقراطية في مصر ولم ترَ الأمور الخاطئة التي كان يرتكبها نظام مرسي).

المفاجئ، كان تخلي تركيا عن استخدام قوتها الناعمة تجاه المنطقة منذ ذلك الوقت، على اعتبار أن إحدى وصايا سياسة (صفر مشاكل) تنص على (أخذ مسافة واحدة من الجميع) أي رفض الانحياز إلى طرف ضد آخر في النزاعات الإقليمية. وهو ما كان دائماً نوعاً من التنظير، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، إذ نادراً ما فوتت الحكومة التركية  الفرصة لتقوية وتعزيز مكتسباتها الإقليمية والإسلامية عبر انتقاد الإسرائيليين. وفي أعقاب (الربيع العربي)، يبدو أن سياسة (أخذ مسافة واحدة من الجميع) قد ذهبت أدراج الرياح.

والواقع أن مصر ليست البلد الوحيد الذي بات يُنظر فيه إلى تركيا الآن كلاعب منحاز، بدلاً من (حلال مشاكل) محايد. ففي العراق، مثلاً، تحدت أنقرة حكومة المالكي صراحة، متهمة إياها بالتحريض على الصراع الطائفي واستقبلت نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي المتهم بارتكاب جرائم ضد الشعب العراقي، ومن ثم شرعت في التفاوض حول صفقات نفطية مع حكومة إقليم كردستان، التي تدير شمال البلاد، من وراء ظهر حكومة بغداد. وفي سورية، قدمت دعماً كبيراً ل(الثوار المعارضين للنظام) وسمحت لهم بالتحرك بحرية على أراضيها غاضة الطرف عن فظاعاتهم وجرائمهم التي بدأت تؤرق المجتمع الدولي ومنتقدةً الولايات المتحدة، بطريقة غير مباشرة، لأنها صنفت (جبهة النصرة) التابعة ل(القاعدة) كمنظمة إرهابية.

وإذا كانت مشاكل السياسة الخارجية التركية في الشرق الأوسط لا مفر منها، فإن عزلتها في أماكن أخرى يبدو أنها كانت من صنع يديها. ونتيجة لذلك، تواجه أنقرة اليوم خطر العودة إلى عقلية التسعينيات، عندما كان التوتر مع البلدان العربية والأوربية محتدماً، وكانت نظريات المؤامرة تسمم العقلية السياسية للأتراك، والذين يؤمنون بالمثل القائل: (لا صديق للتركي غير التركي) اقتناعاً منهم بأن بلدهم يخضع لحصار. وعلى ما يبدو، فإن أردوغان قد نقل بلده من (صفر مشاكل) إلى مشاكل لا حدود لها.

العدد 1104 - 24/4/2024