الصراع على سورية

هل هو الصراع على سورية أم إنه الصراع مع سورية؟ كان هذا فحوى السؤال الذي طرحه صاحب كتاب (الصراع على سورية) الصحفي البريطاني باتريك سيل. ويمكن أن نعيد صياغة السؤال على الشكل التالي: هل الصراع هو على موقع سورية أم على الثوابت السياسية للحكومات السورية المتعاقبة منذ الاستقلال حتى انفجار الأزمة الحالية؟ هذا الطرح أدى إلى انقسام وتباين كبيرين في الرأي عند محاولة الرد على هذا السؤال الأساسي والمركزي، والذي يعدّ المدخل الطبيعي لدراسة الوضع السياسي الداخلي والخارجي في الجمهورية العربية السورية.

فذهب رأي إلى القول، إن الصراع كان ومازال مع سورية وعلى ثوابتها القومية والوطنية منذ الاستقلال حتى اللحظة الراهنة. فحتى بعد زوال الاتحاد السوفييتي بقيت دمشق المشاكسة الأولى للسياسة الأمريكية في المنطقة، وقد تمكنت بتحالفها مع إيران وحزب الله من إفشال مخططات واشنطن في المنطقة. وبالتالي، ليس صحيحاً بالمطلق ما كان يقال عن خطوط اتصال سرية واتفاقات كانت تتم في الغرف المغلقة، وأن واشنطن لا يمكن أن تختلف مع دمشق، وأن النظام السوري ضرورة أمريكية في المنطقة.

أما الرأي الآخر فيقول، إن الحرب التي تُشن حالياً على سورية بسبب موقعها الجغرافي الذي يقع على طريق مرور أنابيب النفط والغاز، وبسبب الثروات الباطنية غير المستثمرة في محافظات ريف دمشق ودير الزور ودرعا وحمص وإدلب. وأصحاب هذا الرأي يؤكدون أن بدء المواجهات في هذه المناطق ليس مصادفة، وأن العامل الأساس الذي يحرك الأحداث الأخيرة التي عصفت بسورية تعود إلى هذه الأسباب. وهذا ما يفسر التطرف القطري – السعودي – التركي غير المبرر ضد الحكومة السورية بسبب مواقفها الرافضة لوصول الغاز القطري والسعودي إلى تركيا، ومنها إلى أوربا التي ستتحرر عندئذ من حاجتها الماسة إلى الغاز الروسي، الأمر الذي سيؤدي إلى خسارة موسكو لنفوذها في أوربا وللمردود المالي الهائل الذي يصب في خزائنها. وهذا ما يفسر الموقف الصلب الروسي في الدفاع عن التراب السوري كاملاً.

ويؤكد أصحاب هذا الرأي موقفهم بالقول إن الحرب على سورية وموقفها سيتصاعد بسبب دخول أطراف إقليمية ودولية إلى الداخل السوري لاستغلال الغاز والنفط السوريين، الذي يُقال إن كميته ستجعل دمشق ثاني عاصمة مصدرة للنفط والغاز بعد موسكو. وكذلك بسبب موقع سورية الذي سيتحكم بخطوط نقل الطاقة العالمية في حال وصول حكومة موالية لواشنطن إلى سدة الحكم في دمشق وتنفيذ مشروع »نابوكو«.

إن حسابات ومخططات القوى الدولية ترتبط إلى حد كبير بالموقع الاستراتيجي لسورية وحساسيته بالنسبة لمختلف الأطراف. فروسيا منذ العهد القيصري تعدّ سورية (مفتاح موسكو)، حسب تعبير الإمبراطورة كاترين الثانية. وموسكو في ظل السوفييت أثناء الحرب الباردة جعلت من دمشق عنصراً أساسياً في صراعها مع واشنطن. ولم يختلف الوضع كثيراً في ظل روسيا بقيادة فلاديمير بوتين ذي النزعة الوطنية الروسية، والذي يخطط لعودة موسكو قوة عظمى على مسرح السياسة الدولية، والذي يجد في دعم موقف الحكومة السورية مدخلاً إلى إعلان روسيا قوة عظمى عبر تثبيت شراكته مع سورية والدفاع عن مصالحها مصحوباً بتعزيز الحضور العسكري الروسي في البحر المتوسط، بواسطة القاعدة العسكرية البحرية في طرطوس. ومن هنا نرى أن الإصرار الروسي على أن معادلة إسقاط الحكومة السورية قد سقطت، وسقطت معها المطالبة بتنحي الرئيس السوري، الأمر الذي ترافق مع خفوت أصوات المطالبين بالتدخل العسكري لحسم النزاع الدائر في سورية.

واشنطن تتخوف من امتداد (الحرب الأهلية) إلى الخليج، فمصالحها النفطية الحيوية وقواعدها العسكرية الاستراتيجية (المتأهبة ضد إيران ومن خلفها روسيا والصين). إن واشنطن قد تركت إدارة الصراع على سورية في الفترة السابقة لتركيا وقطر والسعودية، ونأت بنفسها عن ذلك. فما يناسب واشنطن هو أن تخرج دمشق كليمة وضعيفة من هذه الأزمة، حتى تُضعف موقعها الاستراتيجي وتكسر المعادلة التاريخية للدور العربي المتمثل بمحور القاهرة – دمشق – بغداد، المحور الذي يمثل الكابوس بالنسبة لإسرائيل. فواشنطن عملت على دك بغداد، وإشعال دمشق، وإشغال القاهرة، حتى تستطيع إسرائيل إعلان نفسها دولة قومية يهودية.

ومن هذا المنطلق ترى واشنطن أنها نجحت في إضعاف دمشق، وأدخلت الحكومة والمعارضة في سورية في لعبة دم، المنتصر فيها سيكون منهكاً. وترى واشنطن أنها تمكنت من جر طهران وموسكو إلى المستنقع السوري لتعمل على استنزافهما فيما بعد. ولا تبدو واشنطن متسرعة في اتخاذ قرار حول مسألة شديدة الأهمية كالتي تحصل الآن على الساحة السورية، فالخطة التي وضعتها تُصيب عدة أهداف بضربة واحدة، فمن جهة تُغرق أحد أعمدة (محور الشر) في حرب منهكة مع (الجهاديين المتطرفين). وكلما زادت أعداد الجثث تضاعفت الأرباح الأمريكية. ومن جهة أخرى ترى واشنطن أن أعداءها يُصفّون بعضهم بعضاً على الساحة السورية، بينما هي تتأهب للقضاء على المنتصر في هذا النزاع.

هذه الاستراتيجية النفعية والمصلحية لواشنطن أغضبت حلفاءها في المنطقة. فعمد الأتراك إلى الإكثار من الصراخ والوعيد باتخاذ خطوات أحادية الجانب ضد سورية، واندفع رئيس الحكومة التركية مهدداً بالويل والثبور وعظائم الأمور، إن لم ترضخ دمشق لشروط (المجتمع الدولي). الأمر الذي اضطر الدبلوماسية الأمريكية إلى رشه بالماء البارد مرات كثيرة حتى يعود إلى رشده. أما تل أبيب فقد ذهبت إلى استخدام كل الوسائل للضغط على واشنطن وإرغامها على تغيير مخططاتها وجرها لحرب ضد طهران. لكن كل هذه الجهود ذهبت سُدىً لأن الولايات المتحدة صرحت مراراً بأنه لا يوجد على جدول أعمالها مواعيد محددة لضرب إيران. أما دول الخليج فلم يكن وضعها أفضل بعد أن أجهضت واشنطن مساعيها وضغوطها لإرغامها على تبني سياسة واضحة لتسليح المعارضة، بعدما رفضت واشنطن علناً وبوضوح تسليح المتمردين السوريين بسلاح نوعي، وحاولت تجنّب جرّها بالقوة للغوص في المستنقع السوري.

إن سياسة التدخل العسكري المباشر عبر العودة إلى منطق (الاستعمار القديم) قد ولّت إلى غير رجعة، فروسيا لن تكرر تجربة الجيش الأحمر في أفغانستان، والذاكرة الأمريكية لا تزال تعاني كوابيس فيتنام والعراق وأفغانستان، والصين بعيدة عن مشاكل العالم تعمل على بناء إمبراطوريتها الاقتصادية بصمت وصبر. وبالتالي لابد من التوافق على حل كل المشاكل والنزاعات السياسية ومعالجة بؤر التوتر بالعالم عبر (أخذ مصالح جميع الأطراف المعنية بالحسبان) عند البحث عن حل لأي قضية أو معضلة عالمية أو إقليمية. الأمر الذي يُحتّم اعتماد سياسة الحوار في المنطقة، والعمل على إنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي، وفق القرارات الأممية الصادرة بهذا الشأن، والتي تؤكد حق العودة وتقرير المصير، وإقامة الدولة المستقلة للشعب الفلسطيني، وحل الأزمة في سورية عن طريق الحوار بعيداً عن أسلوب الحل العسكري، والتعاون على ضرب الخطر الإرهابي على العالم المتمثل في ظاهرة (المجاهدين) التي باتت تهدد الخاصرة الروسية عبر بوابة الشيشان، وتقرع باب الصين من تركمانستان الشرقية، وتهدد أمن أوربا بالغيتويات التي بدؤوا يُنشئوها في ضواحي المدن الرئيسة، والخلايا النائمة التي ستهز كيان الولايات المتحدة عندما تستيقظ. ذلك أن هذه التنظيمات المتبنية للفكر الجهادي السلفي غير الملتزمة بأي مبدأ أخلاقي أو ديني وحتى إنساني بدأت تنحدر رويداً رويداً نحو شريعة الغاب، الأمر الذي بدأ يظهر بوضوح في بعض المناطق السورية، إذ تعدّ الإنسان الذي لا يعتنق فكرها كافراً يجب قتله… هذا الفكر الذي تدافع عنه بعض القوى الإقليمية والدولية وتريد تعميم أسلوبه الديمقراطي على كامل تراب المنطقة.

العدد 1104 - 24/4/2024