تونس ومصير التجاذبات والاصطفافات

لم تستطع الأحزاب التونسية الحاكمة الممثلة بالائتلاف الثلاثي، والأحزاب والقوى والحركات العلمانية والليبرالية، أن تتوصل فيما بينها، وبخاصة في جولتها التفاوضية الأخيرة، إلى حلول بشأن طبيعة التركيبة القيادية الحاكمة (الرئاسية، البرلمانية، الحكومية). هذا في الوقت الذي تتواصل فيه الاحتجاجات الجماهيرية – الحزبية الأسبوعية، وأحياناً شبه اليومية، ضد هذا الائتلاف، ومطالبته بحل المجلس التأسيسي القائم (البرلمان)، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة.

جديد هذه التطورات يتمثل في الانتشار الواسع للحركات الجماهيرية وشمولها جميع الأراضي التونسية، واتساع الحركات والقوى المشاركة فيها، لتضم أطيافاً أساسية في المجتمع التونسي، من العلمانية إلى الأصولي المتشدد وما بينهما. كما أن جديد هذه التفاعلات التونسية يتلخص في انتشار المد الديني المتزمت من جهة، والاتجاه نحو العسكرة والعمليات ضد الجيش ومؤسسات الدولة من جهة ثانية.. فضلاً عن عمليات الاغتيال لقادة الحركات اليسارية – العلمانية (شكري بلعيد، محمد البراهمي.. إلخ)، والاشتباكات المباشرة مع القوات المسلحة، وخاصة في جبال الشعانبي وعموم المناطق الحدودية الليبية- التونسية، كذلك أجزاء هامة من الحدود الجزائرية – التونسية.. أي الحدود التونسية كلها. وفيما يخص المنطقة الأولى، فإن حالة الفوضى والخلافات القبائلية والعشائرية الليبية تترك أثرها على تونس، وتجد حاضنتها الاجتماعية أيضاً، فإن المنطقة الثانية، ونقصد بها الحدود مع الجزائر، فإنها مرتبطة إلى حد كبير بالتنسيق القديم – الجديد بين هذه الحركات الأصولية المتزمتة، وتوافقها مع الأهداف المشتركة من هذه الحركة وتأثيراتها وفعلها، وما توفره الحالة الاقتصادية – الاجتماعية من حاضنة هامة لها.

كما يساهم في تمددها وانتشارها السريع طبيعة الائتلاف الحاكم، الذي يقوده حزب النهضة (الفرع التونسي لحركة الإخوان المسلمين) كرئيس للحكومة، وتالياً القيادة التنفيذية- العملياتية مع حليفيها الرئاسي والبرلماني (حزب المؤتمر والتكتل).

ويواجه هذا التحالف الثلاثي قوى وأحزاب ديمقراطية – ليبرالية متعددة، وحركات شعبية آخذة بالاتساع، وبخاصة بعيد نجاح حركة تصحيح مسار الثورة المصرية في 30 يونيو/ حزيران الماضي، ونجاح تجربة جبهة الإنقاذ المصرية (تضم 15 حزباً وقوة متعددة التوجه والاتجاهات)، كذلك الحركات الشعبية المناهضة والفاعلة منذ ثورة يناير/ كانون الثاني 2011 (حركة تمرد، شباب الثورة.. إلخ).

 ومع نجاح هذه التجربة المصرية وتداعياتها، التي ساندتها القوات المسلحة المصرية بلسان وزير دفاعها الفريق الأول عبد الفتاح السيسي، انتقل عدوى هذا الحراك الجماهيري – الشعبي – الحزبي إلى تونس، وذلك بتشكيل جبهة الإنقاذ التونسية (إطار وتيار واسع وعريض)، ويمثل حمى الهمامي الناطق الرسمي باسمها كجبهة شعبية عريضة (أمين عام حزب العمال الشيوعي التونسي، وراهناً حزب العمال)، والتي حددت مطالبها بحل المجلس التأسيسي (البرلمان)، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة. كما أعلن الناطق باسم حركة (تمرد) (لاحظ اتخاذ الحركتين التسميات المصرية نفسها) محمد بنور المطالب ذاتها من حل المجلس التأسيسي، إلى الدعوة لانتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة.

وخلافاً للحالة المصرية، فإن تونس تواجه قوى أصولية- متزمتة، على يمين حزب النهضة، الذي يحاول أن يقدم نفسه حزباً دينياً وسطياً (حركة إخوان مسلمين معتدلة)، وأن يؤكد عدم انفراده بالسلطات الحاكمة، كما الحالة المصرية، من خلال الائتلاف الثلاثي الذي يقوده عملياً.

كما أنه خلافاً للحالة المصرية، فإن القوات المسلحة التونسية، ولاعتبارات تونسية محضة (تحتاج إلى بحث منفصل)، أكدت موقفها من إزاحة الرئيس المعزول زين العابدين بن علي، بالانحياز إلى الائتلاف الثلاثي الحاكم، فإنها لم تتخذ بعد موقفاً محدداً من التفاعلات التونسية الجارية على اتساعها وتطوراتها السياسية المتسارعة، بين مجموع الأحزاب والقوى الحزبية – الشعبية، وبخاصة حول مطلبَيْ حل البرلمان وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة. في الوقت الذي تواجه فيه هذه القوات حركات تمرد حقيقية علنية، وصولاً إلى العمل العسكري، وبخاصة في منطقة جبل الشعانبي، ومحاولة القوى الأصولية المتزمتة رفع سقف مطالبها السياسية- الاجتماعية تجاه الائتلاف الحاكم (الذي يقوده عملياً الإخوان المسلمون)، وصولاً إلى السيطرة التدريجية على المساجد ودور العبادة واستخدامها منبراً إعلامياً – اجتماعياً هاماً لهذه الحركة الأصولية.

حزب النهضة الإخواني وحليفاه،  يواجه عملياً موقفين مخالفين: الأول يتمثل في محاولة الحركة المتزمتة تجذير قواها الآخذة بالاتساع الأفقي والعمودي، في بلد عرف مبكراً الديمقراطية، وأقرها دستوره المتطور اجتماعياً، مقارنة بالأنظمة العربية والإفريقية الأخرى، وخاصة جواره. كما يواجه حزب النهضة وحليفاه اتساع القوى الديمقراطية والعلمانية والليبرالية وتأثيرها، والتي تستند إلى عراقة الحركة السياسية – الحزبية التونسية من جهة، وإلى طبيعة النظام السياسي- الاجتماعي المتطور عملياً مقارنة بجوارها على الأقل من جهة ثانية.

هذه القوى ممثلة بالجبهة الشعبية (كإطار عريض)، تطرح أن الديمقراطية ليست صندوق الاقتراع فقط، على أهميته،  إنما أبعد من ذلك بكثير، وأن الديمقراطية ليست جولة انتخابية واحدة ساهم في نتائجها العديد من العوامل، وبخاصة (العربانية) ومحور (قطر والسعودية وتركيا).

أما القوات المسلحة، فكما كان موقفها مختلفاً عن مثيلاتها في دول ثورات (الربيع العربي)، فإنها تواصل الدور والمهمة نفسهما، في ظل حراك شعبي- حزبي تونسي آخذ بالاتساع والتجذر، الذي من شأنه أن يحدد مصير تونس وتوجهها نهجها القادم أيضاً، فضلاً عن شبكة علاقاتها وخاصة في محيطها غير الهادئ.ش

العدد 1105 - 01/5/2024