الأزمة السورية وحقيقة المخططات الغربية

يتحدث الصهيوني برنار هنري ليفي في كتابه المهم (الحرب بدون أن نحبها) بطلاقة وجرأة وفخر عن حقيقة ما يقال إنه ربيع عربي، كاشفاً عن الدور القذر الذي لعبه في هذه الثورات. والحقيقة أن مايرويه لي؟ي في كتابه (مرعب)، فهو يقول بصراحة إنه صانع ما جرى في ليبيا ومدبره، وإنه هو الذي كتب بيانات المجلس الانتقالي في ليبيا، وإنه هو الذي حرّك دفعات المال وشحنات السلاح من كل مكان إلى ليبيا، وهو الداعي إلى حشد القوات. وبلغت صراحة ليفي حداً غير معقول عندما وجّه اللوم إلى رئيس الوزراء البريطاني دافيد كاميرون، لأنه لم يقبل المشاركة في العمليات إلا بعد أن أخذت الشركات البريطانية نصيباً من بترول ليبيا مقدماً!). ويؤكد لي؟ي أنه هو الذي نصح بتوظيف جامعة الدول العربية لتكون جسراً لوضع ليبيا في سلطة مجلس الأمن كي يطبق فرض حظر جوي انتهى بالطريقة التي رأيناها.

ولكن السؤال الذي يجب طرحه: إلى أي حد يمكن لهذا العرّاب أن يكون مقتنعاً بالحكام الجدد لليبيا؟ صراحة هو لا يقتنع بهم إلا بمقدار الانبطاح الذي يمكن أن يحققوه أمام الغرب، كما أنه مقتنع بهم ماداموا مقتنعين بالانسجام مع المصالح الغربية الصهيونية. ويؤكد هذا ما كتبه ليفي في مقالة رأي نشرتها قبل فترة صحيفة (لوبوان) الفرنسية: (إذا كان السؤال يتعلق بالطريق الذي ستسلكه ليبيا في المستقبل، فإن معركة جديدة إيديولوجية هذه المرة، يتم فيها الفصل بين أقلية ترى في الشريعة ما يراه المتعصبون، وبين أولئك الذين يرون الجمع بينها وبين المُثُل الديمقراطية، فذلك أمر طبيعي. كما أن من الطبيعي أيضاً أن يكون لنا في هذه المعركة الثانية دورٌ نلعبه).

ورغم أن ليفي لم يسمّ الأشياء بمسمياتها، أو يوضح طبيعة أو هوية الجهة التي حذر بواسطتها باستخدام التدخل، إلا أنه بدا واضحاً أنه لوّح بتدخل ل(الناتو) وبعض الدول المنضوية تحت مسمى أصدقاء ليبيا. ومن جهة أخرى يكشف ليفي جوانب مما دار في لقاءات أخرى بينه وبين معارضين وضباط منشقين سوريين يؤيدون (التدخل الدولي). ويؤكد ليفي أن المبادرات الأخيرة للجامعة العربية بخصوص سورية تقف وراءها (قوة إقليمية وليدة اسمها قطر)، وأنها تندرج ضمن خطة مستوحاة من (السابقة الليبية)، ما يعني أن مساعي الجامعة العربية بخصوص سورية لا تهدف إلا إلى منح شرعية عربية للتدخل الأجنبي، مثلما حدث في ليبيا.

وكان هناك، حتى في فرنسا، معارضون (سوريون)، ممن التقيتهم أثناء الإعداد لتجمع تضامني مع المدنيين السوريين، قبل الصيف الماضي، قالوا لي آنذاك: إنهم يفضلون الموت على أن ينطقوا بكلمة (تدخل) أو (تدخل دولي). وهذا ما يفسر لماذا لم نقم في سورية بمثل ما قمنا به في ليبيا. ليس ذلك من قبيل الكيل بمكيالين، بل كانت لهذه الفضيحة الأخلاقية (!!!) أسباب ومبررات عديدة، أولها أن (المعارضين) السوريين، بخلاف الليبيين، لم يكونوا يطالبون بالتدخل، بل كانوا في أحيان كثيرة يرفضون ذلك.إلا أنه يستأنف كلامه بكثير من الغبطة والسرور؟ وها قد بدأت مواقف هؤلاء تتغير،  لصالح المطالبة بالتدخل، وهو ما لمسه الجميع من مطالبهم وتسمياتهم للجُمَع، لاسيما جمعة التدخل الفوري.

من جهة أخرى لا يدخر المندوب الرئاسي الفرنسي برنار هنري ليفي وسيلة من الوسائل في سبيل تحقيق ما يريد سواء، بواسطة الأعمال العسكرية الميدانية، أو بوسائل الإعلام مقروءة كانت أم مسموعة ومرئية، أو بواسطة الفن وما يمكن أن يقوم به في هذا المجال المؤثر والفعال. ويؤكد هذا  ماقدمه برنار هنري ليفي في فيلمه (قسم طبرق) الذي أخرجه بالاشتراك مع المخرج الفرنسي مارك روسيل، وعُرِضَ في مهرجان كان السينمائي في العام ،2012 وفيه توثيق وعرض واقعي وحقيقي لمفهومه الخاص عن الحرية. فهذا الفيلم حسب ليفني جاء ليصور كيف يمكن تجسيد النظريات الفكرية على أرض الواقع لأول مرة في التاريخ عبر التدخل العسكري،ويصور ليفي في الشريط الذي موله (جيل هيرتزوغ) تحركاته بجانب المسؤولين الفرنسيين وفي العالم لإقناعهم بضرورة التدخل العسكري في ليبيا، وذلك بالتشاور مع الليبيين، فقد زار البلاد مرات عديدة. ويقول ليفي صديق إسرائيل: حتى ولو كنت سأصدمكم فأنا لست ضد التدخل في سورية إذا كان سيضعف إيران. سورية هي الذراع المسلحة لإيران في المنطقة، وأتمنى أن نكون فاعلين في سورية كما كنا فاعلين في ليبيا). والجدير ذكره حسب (فرانس24)  أن الأغلبية متيقنة من أن ليفي لن يتمكن من إعادة التاريخ في سورية حسب النموذج الليبي، لاسيما في ظل الحكومة الفرنسية الجديدة، وهو ما يؤكده الصحفي كريستوفر ديكي ل(فرانس 24): (أظن أن نجاح ليفي سيتبدد بعد ساركوزي). وأضاف: (شعوري هو أن الجميع ينظر إلى ليفي بوصفه عنصراً مستقلاً لكن غير مستقر نوعاً ما، والسياسيون عموماً لا يحبون الجهات التي لا يمكن التنبؤ بها، وخاصة في الشؤون الحساسة).

ويبدو أن هذا المفكر الصهيوني لم يشبع بعد من الدماء العربية التي استلذّ بسفكها، بل إنه يطمح  إلى سفك المزيد من الدماء العربية، ولعله بنزقه وساديته المعهودة يطمح الآن لإراقة دماء الشعب الجزائري. وتحدث ليفي عن الرئيس بوتفليقة قائلاً: (نظام بوتفليقة هو نظام البيروقراطية الذي يسد الأفواه، ويمنع حرية التعبير). وفي هذا تحريض على الجزائر الدولة، ورغبة جامحة لديه بتدميرها وبثّ الفوضى والدمار فيها. وتفتح مثل هذه التصريحات، لأحد عرابي التدخل في الشؤون الداخلية للدول بذريعة (الحق الإنساني)، الباب أمام الآراء التي ترى أن الجزائر ما زالت في دائرة الاستهداف، وأن الإصلاحات التي باشرتها عقب الأحداث التي شهدتها دول الجوار، لم تدفع عنها شبح الديمقراطية المحمولة جواً، والمعجونة بدماء الأبرياء من الجزائريين بحجة نشر الديمقراطية. ولا يستبعد أن تكون الفوضى، وانتشار السلاح في مالي المهرب من ليبيا، البوابة التي يسهل بها الابتزاز والمساومة في الشأن الجزائري.

وكان برنار ليفي على علاقة وثيقة بالسياسيين الفرنسيين وبقصر (الإليزيه) أياً كان ساكنه.. وقيل: إن نيكولا ساركوزي عرض عليه عام 2007م أن يكون وزيراً للثقافة، وكذلك فعل جاك شيراك عام ،2002 وقد وصفه ساركوزي بأنه الصديق الحميم، كما دعته سيجولين رويال، مرشحة اليسار لأن يكون مستشاراً لها، وخصصت له فصلاً في سيرتها الذاتية.. وكان كذلك متعاطفاً مع رئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير، ووصفه بأنه من أذكى الرجال الذين أنجبتهم أوربا.

شكّل ليفي فريقاً من اليهود للضغط على ساركوزي أثناء حملته الانتخابية، فأبلغوه بأنه إذا كان يرغب في رئاسة فرنسا فعليه أن يواصل الضغط على المجموعة الدولية من أجل تركيع السودان عبر حزمة إضافية من العقوبات، تجعله يرضخ لخيار التقسيم وفصل جنوبه عن بقية البلاد.. وكان له ولفريقه ما أرادوا.

هذا هو برنار هنري ليفي  الذي يثق به بعض دعاة الربيع العربي ومنظروه، وهذه هي أهم الأفكار التي عمل عليها ومازال وفق مخططه المزعوم، بيد أن نجاح مخططه في دولة ما لا يعني بالضرورة نجاحه في غيرها فلكل دولة وضعها المختلف عن الأخرى.

العدد 1105 - 01/5/2024