الراحل عبد الجليل بحبوح وذكريات لا تنسى

يعيدني رفيقنا الراحل أبو فيّاض في كتاب مذكراته إلى أزمنة سابقة في حياتنا المشتركة داخل الحزب الشيوعي في سورية ولبنان، وفي العلاقات الرفاقية بين حزبينا، بعد انفصالهما في حالتي المد والجزر، اتفاقاً واختلافاً. والزمن القديم الذي أشير إليه يحتل، في الجميل منه الذي أعتز به وفي الملتبس منه، مكاناً عميقاً وراسخاً في الذاكرة يستعصي على النسيان.

قرأت المذكرات بمتعة وبشغف. وأعادتني القراءة إلى سيرة أبي فيّاض الغنية التي تميّز فيها بالصدق في انتمائه إلى أفكاره، وفي البذل والعطاء بتواضع، ومن دون حساب لكل ما تواجهه من صعوبات داخل السجون وفي زنزانات التعذيب وفي المنافي. كنت أعرفه قبل أن ألتقي به. لكن لقاءنا الذي تمّ في أواخر الستينيات كان استكمالاً للعلاقة الحية والحميمة لتلك المعرفة السابقة من بعيد، وإغناء لها، وتعميقاً لصداقة كانت أقوى مما تمثله وتعبّر عنه العلاقات الرفاقية. لكن أجمل ما عبّرت عنه تلك العلاقة الحميمة بيننا تمثّلَ بارتباطه في مملكة الزواج بالمناضلة الشيوعية الرائعة زينب نبّوه، التي صارت تعرف بأم فيّاض. وتربطني بالرفيقة زينب علاقات قديمة تعود إلى مطالع خمسينيات القرن الماضي داخل صفوف الحزب الشيوعي اللبناني.

ولا بد من الإشارة إلى أن لكنية الرفيق عبد الجليل بحبوح والرفيقة زينب نبّوه بأبي فيّاض وأم فيّاض، إنما تعود إلى رغبتهما في أن يربطا كنيتيهما باسم القائد الشيوعي الشهيد فرج الله الحلو، الذي كان يحمل اسم أبي فيّاض، تقديراً منهما لتضحياته واعتزازاً بتاريخه النضالي وبدوره الذي لا ينساه الشيوعيون السوريون مثلما لا ينساه الشيوعيون اللبنانيون.

قرأت الكتاب فصلاً فصلاً. وهو من كتب السيرة الذاتية التي تمتع القارئ وتقدّم له معرفة دقيقة بصاحبه. ومن أجمل ما قرأت في الكتاب الفصل الذي يتحدث فيه أبو فيّاض عن الظروف التي هيأت لتلك العلاقة الجميلة بينه وبين زينب في المدرسة الحزبية في بلغاريا خلال السنوات الثلاث التي قضياها معاً، وانتهت بزواجهما. وهي تفاصيل إنسانية يرويها أبو فيّاض ببساطة وبسرد جميل ومن دون تكلّف، كما لو كان يكتب قصة اثنين آخرين. تضاف إلى جمال تلك التفاصيل عن علاقة الرفيقين تفاصيل عن علاقاتهما بمناضلين شيوعيين قدامى، من بينهم عدد من أصدقائي ورفاقي، هم السعودي إسحاق الشيخ يعقوب، والعراقي عبد الرزاق الصافي، والبلغاري إستانتشيف، وزوجة الأمين العام للحزب الشيوعي الإسرائيلي ماير فلنر، الذي نسي أبو فيّاض أن يشير في كتابه إلى الاعتداء الذي تعرّض له ذلك المناضل الأممي بالسكاكين، وهو يلقي خطابه في الكنيست، معلناً استنكاره لوحشية القوات الإسرائيلية في مصر وسورية في حرب الأيام الستة في عام 1967 التي انتهت بهزيمة العرب الثانية في حروبهم مع إسرائيل بعد نكبة عام 1948.

والطريف والجميل والمحزن في الآن ذاته ما فاضت به ذاكرة أبي فيّاض في الحديث عن ممارسات القيادات الحزبية، لا سيما الأمناء العامين. أذكر منها تلك التي تحدّث عنها بإسهاب في الدور الذي كان يعطى لزوجات الأمناء العامين على حساب الرفيقات المناضلات اللواتي كانت السجون بعض منازلهن في أعقاب المعارك الصعبة التي كنّ يخضنها بشجاعة حول القضايا الوطنية والاجتماعية.

كثير مما جاء في الكتاب من أحداث يتصل بوضع الحزب الشيوعي السوري، موحداً ثم منقسماً، لا تفارق ذاكرتي. ولا أحب أن أقحم نفسي فيها وأنا أتحدث عن رفيقي وصديقي الراحل وعن سيرته. فما يهمني في سيرة هذا المناضل أمانته لتاريخه ولأفكاره، وبقاؤه راسخاً وثابتاً في الموقع الذي اختاره لنفسه ولمصيره وسط شعبه، مناضلاً من أجل الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية التي هي جوهر الاشتراكية في الفكر وفي السياسة وفي الغايات المبتغاة منها.

ويكتشف القارئ، وهو يتابع قراءة الكتاب، شخصية هذا المناضل النموذجي الذي واجه المعاناة في السجون وفي زنزانات التعذيب صامداً ثابتاً في موقعه كمناضل شيوعي لا تقهره الصعوبات مهما كبرت واشتدت وكادت تودي به.

إلا أنني لا أستطيع وأنا أقرأ سيرة هذا المناضل الشيوعي الشجاع إلا أن أتذكر الزمن الذي أشرت إليه في مطلع هذه الكلمات عندما كنت أقيم في دمشق محرراً في جريدة (النور) تحت قيادة فرج الله الحلو. كان ذلك في عام 1957. في تلك الفترة على وجه التحديد نشأت علاقتي بدمشق وبتاريخها القديم والحديث، وبتاريخ سورية القديم والحديث، وعلاقتي برموز الحركة الوطنية والحركة الشيوعية فيها، وبالرموز الثقافية. لذلك فإن علاقتي التاريخية هذه بسورية هي التي تجعلني اليوم أحزن على ما وصلت وما أوصلت إليه. وأعرب عن تضامني مع الشعب السوري العريق في النضال من أجل الحرية، وأعرب في الآن ذاته عن ثقتي بمستقبل سورية، قلب العروبة النابض، ومستقبلها كدولة ديمقراطية حديثة متعارضة مع كل أنواع الاستبداد والطغيان، المدني منهما والديني، والمنفتحة على العصر وعلى تحولاته، وعلى الحرية والتقدم في تلازمهما ضد كل طغيان واستبداد يتحكم أصحابهما بمصائر الشعوب.

غير أنني، وأنا أتابع قراءة سيرة أبي فيّاض وأم فيّاض، أتذكر لقاءاتنا في الأعوام الأخيرة في بيروت مع الكاتب السعودي المناضل إسحاق الشيخ يعقوب وزوجته المناضلة البحرينية نعيمة. وهي لقاءات كانت تعيدنا أحياناً إلى الماضي اعتزازاً به ونقداً لأخطائنا فيه، وكانت، في الآن ذاته، تدخلنا في نقاشات حول الحاضر وحول المستقبل، بقدر غير قليل من الخوف على بلداننا في الزمن الذي نحن فيه، وبقدر غير قليل من التفاؤل بالمستقبل.

كتاب أبي فيّاض يحفز على القراءة استحضاراً للماضي وبحثاً عن المستقبل.. لكنني أكتفي بهذا القدر مما أوحى إليَّ به هذا الكتاب الجميل.. فتحية لك أيها الرفيق الراحل أبو فيّاض في ذكراك الطيبة، وتحية لك أيتها الرفيقة العزيزة أم فيّاض.

العدد 1105 - 01/5/2024