الأزمة السورية من منظور نظرية الأمن القومي الإسرائيلي

تقوم نظرية الأمن القومي الإسرائيلي على اعتبارين رئيسين:

الأول، يقول إن إسرائيل جزيرة صغيرة وسط محيط عربي وإسلامي واسع، الأمر الذي سيؤدي بالضرورة إلى اختلال في التوازن السكاني لغير صالح الكيان الإسرائيلي.

الثاني، يتنبأ بأن الموقف الدولي ليس مضموناً في موازينه، لأنها متحركة غير ثابتة أو مستقرة، فالعداوات تنشأ والتحالفات تتغير عندما تتبدل مصالح الدول. ففي البدايات اعتمدت إسرائيل على بريطانيا العظمى، ولكن شمس الامبراطورية غربت، فحاول الإسرائيليون الاعتماد على القوة الفرنسية، ولكن العزيمة الفرنسية فترت. ثم كان اعتماد تل أبيب على قوة واشنطن التي لا تزال عاتية ولكنها في أزمة منتصف العمر، فقد أصبحت قوة هوائية المزاج مفتوحة على ضغوط شتى ومتعرضة لضغوط ومؤثرات متناقضة ومتعارضة داخلية وخارجية.

ومن هذين الاعتبارين نستطيع أن نستشرف الأسس النظرية التي تُبنى عليها نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، وهي:

لابد أن يكون لإسرائيل التفوق العسكري الساحق الذي يمكِّنها من حسم أي صراع، والقضاء على أي تهديد ضدها في أسرع وقت ممكن، وبأقل عدد من الإصابات.. وهذا الحسم يجب أن يتم في ساعات أو أيام قليلة، ويجب تجنّب الدخول في حرب استنزاف لتكلفتها الباهظة على تل أبيب.

يتطلب هذا الأمر أن يكون لدى إسرائيل جيش (يجب أن لا يُسمح له بالهزيمة) مهما كانت الأسباب والظروف، ويجب أن يُثبت دائماً أنه أقوى من كل الجيوش العربية المحيطة بإسرائيل مجتمعة، يُركّز قوته عليها واحداً واحداً، يفرغ من الجبهة الأولى في ساعات قليلة لينتقل إلى الجبهة الثانية، وهكذا.

يجب أن يأخذ الجيش الإسرائيلي زمام المبادرة دائماً، وذلك بنقل مسرح العمليات العسكرية منذ ساعات الصراع الأولى إلى أرض العدو – الأرض العربية المحيطة بإسرائيل – لأن العمق الإسرائيلي الضيق لا يسمح بحرية المناورة الواسعة التي تفرضها طبيعة الحرب الحديثة، ولأن الاقتصاد الإسرائيلي لا يستطيع تحمل الضربات العسكرية التي ستُوجّه إليه، والتي سينتج عنها دمار وخراب كبيران.

إن أي حرب ستنشب يجب أن تكون سريعة وخاطفة، لأن الموارد البشرية والاقتصادية الإسرائيلية لا يمكنها تحّمل حرب طويلة الأمد، ستؤدي بالضرورة إلى نزيف بشري ودمار في البنية التحتية الإسرائيلية، وما يرافق ذلك من نزيف اقتصادي قد لا تتحمله خزينة الكيان الصهيوني لفترة طويلة. فعندما تُعلن إسرائيل التعبئة العامة فإن أكثر من نصف قوتها العاملة ستُصبح تحت السلاح، الأمر الذي سيؤدي إلى تعطيل نصف الطاقة الإنتاجية في إسرائيل.

ما سبق يفرض على إسرائيل مواجهة »الكم الهائل العربي« »بالكيف المنتقى الإسرائيلي«. لذلك يجب عليها أن تواصل باستمرار تطوير وتدعيم هذا الكيف البشري عن طريق تشجيع هجرة اليهود من البلاد المتقدمة علمياً، وتوجيه جزء كبير من مواردها لمراكز الأبحاث العلمية والتكنولوجية. وفي الوقت نفسه عليها العمل على دفع »الكم العربي« وراء أسوار التخلف، وأن لا تسمح له تحت أي ظرف من الظروف أن يحول هذا الكم إلى صفة الكيف، وتحول من فاعل في التاريخ إلى مفعول به على مسرح الأحداث السياسية العالمية.

يجب دائماً وجود صديق دولي كبير يساند إسرائيل ويدعمها دون تردد، ويمدها بمبررات وجودها. فبن غوريون لم يشارك في عدوان 1956 على مصر إلا بعد أن أخذ تعهداً مكتوباً وموقعاً من بريطانيا العظمى وفرنسا بأنهما سوف تدخلان الحرب خلف إسرائيل بست وثلاثين ساعة. وحين ذهب دايان إلى مقابلة دافيد بن غوريون في مستعمرة سد بوكر قبل عدوان 1967 قال له: إن إسرائيل قررت مهاجمة الدول العربية، فكان سؤال بن غوريون الأول والأخير: »هل الولايات المتحدة معكم… إن كانت معكم فادخلوا الحرب… وإن لم تكن معكم فانتظروا فرصة أخرى!«. وفي حرب تموز 2006 لم يدخل الإسرائيليون القتال إلا بعد أن ضمنوا الغطاء السياسي من الغرب، ومن ما أصبح يُعرف بمحور الاعتدال العربي.

وبعد خروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي بتوقيعها اتفاقية كامب – ديفيد، ونأى الأردن بنفسه عن هذا الصراع بعد اتفاق وادي عربة، لم يبق من قوة يحسب لها الحساب إلا القوات المسلحة السورية التي قد توجّه ضربات موجعة إلى الكيان الصهيوني. ولهذا حاول الإسرائيليون، وخصوصاً بعد حرب تموز ،2006 تدمير هذه القوة إن لم تتمكن من تحييدها بعد أن قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتدمير العمق الاستراتيجي للقوات المسلحة السورية المتمثل في الجيش العراقي عام 2003.

أهمية الموقع الجغرافي لسورية في الاستراتيجيات الكبرى للدول العظمى

قال باتريك سيل في كتابه (الصراع على سورية): من استطاع السيطرة على سورية أمكنه أن يحكم المشرق العربي كله، لا بل منطقة الشرق الأوسط بأسرها. ذلك أن بنيان سورية الاجتماعي والسياسي يعكس إلى حد كبير صراعات جيرانها، إذ إنه من يُرد أن يحكم الشرق الأوسط فعليه أن يسيطر على سورية (أو يضمن سورية إلى جانبه)، وذلك للأسباب التالية:

أولاً – الموقع الاستراتيجي لها، فهي حارسة المسالك الشمالية – الشرقية المؤدية إلى مصر (والمدخل إلى هضبة الأناضول قلب الجمهورية التركية )، وتحرس خط اليابسة الممتد من العراق إلى البحر الأبيض المتوسط، وهي رأس شبه الجزيرة العربية والحدود الشمالية للعالم العربي. وهي بذلك في موضع القلب والمدخل الساحلي الغربي للشرق الأوسط.

ثانياً – هي قلب الحركة القومية العربية وعقلها وروحها منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى الآن. على أرضها ولدت الأفكار القومية، وعلى ترابها وضعت أساسات حركات التحرر العربية. وهي بذلك الساحة التي ستختبر عليها المثل العليا التي من أجلها تخاض الحروب، وعلى أرضها يعاد تشكيل النظام الإقليمي.

ثالثاً – بسبب التنوع العرقي والإثني والديني والعشائري والتنافس الذي يدور بين هذا الموزاييك الجميل، وبسبب التقسيمات الجغرافية بين الساحل والداخل، الجبل والسهل، المدينة والريف، البادية والحضر، وتنافس المجتمعات الزراعية والصناعية والتجارية فيما بينها، وبسبب صراع الأفكار والمبادئ والمفاهيم، وخاصة فيما يتعلق بالسياسة العربية (الرؤيا والهدف )، جعل باتريك سيل يقول: يجب أن لا نعتقد أنها الضحية لمشاجرات شعب آخر… وإذا ما فتشنا عن أسباب أزمة دولية محزنة فإن الخيط يقودنا في بعض الأحيان إلى دمشق.

الأزمة السورية وصراع الدوائر الثلاث

نستطيع القول إن الأزمة السورية عبارة عن صراع ثلاث دوائر:

الدائرة الأولى، وهي الدائرة الداخلية ويدور الصراع فيها بين الحكومة والتنظيمات المسلحة التي رفعت السلاح في وجه الدولة في عدة مناطق من سورية، وحاولت خلق كيانات خارج نطاق سلطة الحكومة في دمشق.

الدائرة الثانية، وهي دائرة الشرق الأوسط حيث حُددت سورية ساحةً لهذا الصراع خدمة لأهداف ومصالح القوى الإقليمية ممثلة في دول الخليج وتركيا وإسرائيل، التي تحاول القضاء على محور المقاومة المتمثل في إيران – سورية – تنظيمات المقاومة الوطنية العربية، فتركيا ترى أن بقاء الحكومة السورية برئاسة الدكتور بشار الأسد يقوي النفوذ الإيراني في المنطقة، ويُضعف فرص تركيا بتنصيب نفسها زعيمة لمنطقة الشرق الأوسط، في ظل تراجع الدور المصري على صعيد السياسة الخارجية. وفي الوقت نفسه تخوض السعودية معركة كسر عظم مع إيران على الساحة السورية، خوفاً من تمدد إيران نحو حقول النفط في الخليج (ودون أن نغفل البعد المذهبي للصراع السعودي – الإيراني). وبموازاة هذه المعركة تخوض السعودية صراعاً صامتاً مع تركيا في شمال سورية خوفاً من خسارة موقعها الإسلامي لصالح تركيا في حال انتصار الجناح الذي تدعمه تركيا في المعارضة السورية، والذي سيعني نجاح مشروع العثمانيين الجدد في المنطقة.

الدائرة الثالثة، وهي دائرة الصراع بين القوى العظمى وتحديداً بين الولايات المتحدة من جهة، وروسيا الاتحادية التي باتت تدرك بأنها ستفقد آخر موطئ قدم لها في الشرق الأوسط في حال خسرت دمشق.

أين إسرائيل من كل ذلك؟

على صعيد الحلقة الأولى، نرى أن إسرائيل قد أوعزت لحلفائها وعملائها في الداخل السوري بتنفيذ هجمات نحو المواقع السورية الحساسة (عسكرية أو مراكز أبحاث) بهدف تدميرها، وبموازاة ذلك قامت فرقها المختصة باغتيال الكوادر العلمية السورية التي كانت تشكل ثروة قومية للبلاد. وفي الوقت نفسه، بدأت إسرائيل بتنفيذ مخطط لإثارة الفتنة الطائفية بهدف دفع الأمور نحو الحرب الأهلية التي ستنتهي، حسب التصور الإسرائيلي، إلى تقسيم البلاد. وفي هذه الدائرة من الصراع، نرى أن إسرائيل بعملها هذا تحافظ على تفوقها العلمي والتقني بتدميرها للمواقع العلمية واستهدافها للكوادر العاملة في هذه المواقع، وتستنزف الجيش السوري آخر القوى المؤهلة لردعها عبر جره إلى معارك داخلية بغية إنهاكه وتدميره، وفي الوقت نفسه تمهد الطريق لإعلان يهودية الدولة عن طريق خلق كيانات طائفية تدور في فلكها. وبعملها هذا تكون قد دقت الإسفين الأخير في نعش القضية الفلسطينية.

أما بالنسبة للدائرة الثانية والثالثة، فإن إسرائيل تعمل بهُدى الحكمة الصينية القائلة: (اترك النمرين يتصارعان، ثم اقض عليهما بضربة واحدة). فتل أبيب تترقب استنزاف القوى الإقليمية والدولية بعضها لبعض على الساحة السورية، بُغية توجيه ضربة قاتلة لهم جميعاً (عسكريةً كانت أم اقتصادية)، دون تفريق بين عدو وصديق… ففي النهاية حتى يتحقق حلم دولة إسرائيل بالتمدّد من الفرات إلى النيل يجب أن لا تبقى في المنطقة والعالم قوة تستطيع ردع هذا المشروع.

العدد 1104 - 24/4/2024