«سنعود بعد قليل» الحكايات التي نسيها الإعلام

(سنعود بعد قليل) رحلة أب أرمل من دمشق إلى لبنان، لتفقُّد أولاده الستة قبل إجرائه لعمل جراحي خطير، يفقد أولاده الذين يعرفهم، قبل أن يفقد الحياة في أحد مشافي بيروت بعيداً عن ياسمين دمشقه القديمة وبيته العربي ومتجره.  

فكرة المسلسل مأخوذة عن الفيلم الإيطالي (الجميع بخير)،  النسخة الأصلية للفيلم من إخراج الإيطالي العظيم جوسيبي توارنتوري صاحب أفلام: (سينما براديسو) 1989 وفيلم (صانع النجوم) ،1994 والفيلم الساحر (مالينا) 2000. وأما فيلمه (الجميع بخير)، فكان من بطولة الممثل الإيطالي المشهور مارتشيللو ماسترويالي. لكن النسخة الأمريكية الحديثة عن الفيلم قام بها المخرج كيرك جونز في ،2009 من بطولة الممثل المبدع  الأمريكي ذي الأصول الإيطالية روبرت دي نيرو. بينما يقوم الممثل السوري القدير دريد لحام بهذا الدور بالنسخة التلفزيونية السورية، وهو أحد أهم أدواره في السنوات الأخيرة.

قام الممثل والكاتب الدرامي رافي وهبة بعمل جميل في نقل فكرة هذا العمل السينمائي إلى التلفزيون، وبناء قصة جديدة معاصرة تستمد أحداثها من الواقع السوري اليوم، آخذاً الفكرة الأساسية وهي الأب الأرمل الذي يبحث عن أولاده، والذي لايزال يعيش في عالم الماضي الجميل، ويتعامل كل الوقت مع أفكاره الخاصة التي بناها عن أولاده وهم صغار، غير مدرك لحجم التغيرات التي أصابت شخصياتهم في سن النضج، وهم بعيدون عنه.

 ففي النسخة التلفزيونية السورية غادر الأولاد دمشق إلى لبنان، في سنوات متفاوتة، تاركين الأب وحده في منزله العربي الكبير ومتجره القديم في أحياء دمشق القديمة. اختار كل منهم طريقه في الحياة متجاوزاً القيم التي نشأ عليها. وبما أن العمل كُتِب وصُور خلال الأحداث الدامية التي تعصف بسورية منذ أكثر من سنتين ونصف، وخلال الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي و السياسي والفكري الكبير، فقد كانت الكتابة الدرامية لرافي وهبة معقولة إلى حدٍ ما وهادئة، لأنها عالجت تأثير هذه الاضطرابات على المستوى النفسي للشخصيات بالدرجة الأولى، والتحول الذي أصاب مصائرها. وهي تمثل جزءاً من أبناء سورية الذين تلقَّوْا الصدمة كل بطريقته. وهم كما الشارع السوري منقسمون بعضهم على  بعض، أي أنه أسقط الوضع الراهن بكل ثقله على هذه الشخصيات، وجعلنا نشاهدها وهي تحاول إيجاد طرق ما لاستيعاب الوضع الجديد والتعامل معه وربما استغلاله أحياناً. كما في حالة سامي وفؤاد، وهي بالنهاية تعيد اكتشاف ذاتها من جديد، كشخصية ناديا التي أدتها الممثلة اللبنانية نادين الراسي،  وأختها الصغرى التي أدتها الممثلة الشابة غيداء نوري، وصديقتها التي تؤدي دورها الممثلة الشابة سنثيا. وربما تعيد هذه الشخصيات اكتشاف خياراتها كشخصية سامي السياسي الطموح الذي يرغب في تغيير مسيرة حزبه مستغلاً السياق الجديد للأوضاع في البلدين، والتي يؤديها باقتدار عابد فهد. وشخصية فؤاد التاجر المتعامل مع المافيا، والذي يريد الاستفادة من الوضع بأي طريقة حتى لو كانت تجارته غير مشروعة و مدمرة لبلده، و يؤديها هنا بحرفية جميلة قصي خولي. و شخصية كريم الصحفي المثقف الذي يؤديه الفنان باسل خياط، يحاول الانطلاق في لبنان بعد أن غادر سورية مع زوجته وابنه، والذي يتعامل مع الواقع الجديد بارتباك، خاصة بعد علاقته مع الإعلامية اللبنانية المشهورة ريم، التي تقوم بدورها الفنانة القديرة كارمن لبس.

 ويحاول أن يقدم تحليلاً لِمَا يجري في البلدان العربية بعد الثورات في برنامج تلفزيوني، ليظهر هو وريم حجم الضغط النفسي الذي يعانيه الإعلاميون لإنجاز برامجهم وتقديمها في المحطات التلفزيونية. ربما ينجح في الجانب العملي لكنه يفشل على الصعيد الأسري بسب خيانته لزوجته التي تقوم بأداء دورها الفنانة السورية القديرة سلافة معمار، وهي التي كانت ترفض مغادرة سورية، وستعمل لاحقاً على مساعدة اللاجئين السوريين في لبنان.

 ومن الشخصيات التي قامت بأداء متميز في هذا المسلسل الممثل اللبناني بيير داغر الذي قدم أداءً جميلاً جداً في دور عصام الزوج الذي يتلقى صدمة كبيرة بسبب خيانة زوجته له، والذي يرتبك ارتباكاً شديداً ويتمزق بين حبه لزوجته وكرهه لها بسبب ما فعلته.

  يتفاوت أداء الممثلين بالجودة ولكن رغم ذلك، وربما يسجل لرافي والليث حجو جرأتهما في طرح موضوع المثلية الجنسية كما في حالة شريكة السكن للابنة الصغرى والتي تقوم بدورها الممثلة اللبنانية سنثيا ضمن سياقها الطبيعي بدون معالجة وبهدوء رغم الأداء الضعيف للممثلة. أيضاً المرور على ما حدث مع شخصية مريم التي أدتها الممثلة السورية الشابة دانة مارديني بجمالية خاصة، فقد حاول ألا يتعامل تعاملاً مباشراً مع الانتهاكات المؤلمة التي تعرضت لها هذه الشابة وحاول إظهارها كشخصية قوية وواعية، وفضل أن يجعلها تتجاوز ألمها الذاتي والاهتمام بألم راجي الفنان الذي يؤدي دوره باقتدار الممثل وكاتب السيناريو رافي وهبة. فشخصية راجي تعاني آلاماً كبيرة بسبب شعوره بالمسؤولية بسبب خذلانه لفتاة استنجدت به وماتت على باب بيته لأنه لم يفتح لها الباب بسبب خوفه. 

ثم كان هناك شخصية المرأة التي نكتشف فيما بعد أنها مجرد طيف أتى ليأخذ معه الأب إلى العالم الآخر، وتؤديها الفنانة اللبنانية الجميلة تقلا شمعون.          

قام رافي وهبة والليث حجو بعمل جميل وجيد ومقبول تماماً، رغم أنهم جميعاً عملوا ضمن تأثيرات الأوضاع الإنسانية والأمنية السيئة في  البلدين الشقيقين سورية ولبنان.

وأبدع معظم الممثلين في عملهم على تفاوت، وخاصةً دريد لحام الذي تعرض لمضايقات محرجة أثناء تصوير هذا العمل في لبنان على خلفية موقفه السياسي، لكنه استمر رغم كل شيء. وكان الفنانون، عمر حجو، وقصي خولي وعابد فهد وبيير داغر ورافي وهبة وباسل خياط، ومحمد حداقي، وطلال الجردي، وجابر جوخدار، والممثلات سلافة معمار، ودانة مارديني، وتقلا شمعون، قاموا بأداء جيد، لكن كان هناك أداء ضعيف للبعض الآخر.

تحية لطاقم العمل بفنانيه وفنييه، رغم كل الظروف الصعبة لاتزال الدراما السورية قادرة على قول ما لا يقال في الإعلام السوري.

العدد 1105 - 01/5/2024