الحداثة العربية والموسيقا

ثمة مجموعة من التساؤلات لابد من طرحها: هل الحداثة في العالم العربي تختلف من مكانٍ إلى آخر؟….أم الحداثة العربية تعيش خصوصية تجعل منها حداثة خاصة بها؟… أي أنها أتت كتطور ونتاج طبيعي لموروث ثقافي وإبداعي أوصل هذه المفاهيم إلى واقعها الحالي؟

يقول الباحث والناقد الدكتور راتب الغوثاني: إن الحداثة هي القدرة على كل ما هو استجابة، والاستفادة من كل ما هو جديد ومفيد. وهي لا تعني التحيز والثبات بالمفهوم نفسه الذي لا تعني فيه الأصالة (التقليد والمشابهة). أما ما بعد الحداثة فهو عبارة عن شيء يحوي كل شيء، وهي مساحة من الزمن نتحرك فيها جميعاً، وعملية انتقال للثقافة من طور إلى آخر. وهي بذلك انتفاضة على السائد من الموروث الثقافي. وفنانو ما بعد الحداثة استندوا في نظريتهم إلى سمات الحداثة وطبيعتها على نحو يستحيل معه الفصل التام ما بينهما.

أما الدكتور سمير بشة فله رأي آخر، عبر دراسة له بعنوان /الفصل والوصل بين التراث والحداثة في الإنتاج الموسيقي/ إذ يقول: إنّ الاهتمام بالحداثة من أجل الحداثة لا معنى له، كما أن الاهتمام بالتّراث من أجل التّراث، لا معنى له أيضاً، لأنّ الحداثة في حقيقة الأمر، هي رسالة وطريقة ومنهج ذهني، القصد منه، تغيير المعايير العقلية والوجدانيّة. وهي لا تعني رفض التّراث ولا القطيعة معه، بقدر ما تعني الارتقاء بطريقة التعامل مع هذا التّراث إلى مستوى معيّن تقرّره الرّغبات والحاجات الحياتيّة.

ويقول بيار بولاز: إنه إلى جانب (الاهتمام بالموروث الموسيقي، لا مانع من أن نجد بعض الحركات والاتجاهات المغايرة المتسمة بالانفلات والابتعاد أو القطيعة…). فاتخاذ الموسيقا بمحاكاة الألحان الموروثة كما هي، وإعادة صياغتها بأيّ شكل من الأشكال بدعوى التّهذيب، يهمّش الأصل ويقضي على المتصل به.

وبالنظر إلى الواقع الحالي نجد أن غالبية الناتج الموسيقي فاقد للرسالة والمنهج والطريقة، وهو يعبر عن ظواهر لتجارب ثقافات أخرى خالية من العناصر الفنية الإبداعية. ويعود السبب في ذلك إلى سنوات من القطيعة الثقافية وغياب الفكر الإبداعي الفطري والهيمنة السياسية والدينية اللتين شكلتا حاجزاً في تطور الطبيعي نحو الحداثة، لأن المجتمع غاص في هموم بعيدة عن المتخيل الإبداعي، ما أثر سلباً على طبيعة التعاطي مع الموسيقا كفن وحاجة ضرورية روحية تغنيه وترتقي بنفسه إلى أعلى المراتب الروحية. فالموسيقا كانت ومازالت الدلالة الوجدانية والاجتماعية التي تنم عن ثقافة الشعوب والأمم. وهي نتاج حضارات وتاريخ، لأنها بحق مرآة المجتمع وانعكاس منظومته ونظامه بقيمه الإنسانية وأعرافه التاريخية الأصيلة.

في الموسيقا والإبداع الموسيقي ودور المرأة العربية ومساهمتها في تحديد نمطية المرجعيات العربية ترى الدكتورة نهلة مطر أن تربية المرأة في مجتمعاتنا العربية تتسم بعدم الحياد والتأثير على اختياراتها، وخاصة على صعيد الموسيقا، ويبدو ذلك في تحديد الهوية، وينجلي في ندرة المؤلفات النسوية الموسيقية. بينما نجد منهن الكثير من العازفات الماهرات والمغنيات المبدعات، أمثال أسمهان وأم كلثوم، وفتحية أحمد ونادرة شامية ومنيرة المهدية، وفي وقتنا الحالي فيروز، وماجدة الرومي، وغيرهن.

وفي معرض التتبع لمظاهر الحداثة كظاهرة في المشهد العربي عموماً  نجد أن ثمة شرخاً  في تطبيق مفاهيم الحداثة في الحياة العربية بمجمل فضاءاتها ففي الوقت الذي شهد فيه المشهد الثقافي العربي حراكاً فكرياً للتعاطي مع مبادئ الحداثة، لم نجد على الجانب الآخر من الحياة السياسية العربية حراكاً يوازي الحراك الثقافي. فالنظم العربية السياسية لم تستفد من ظاهرة الحداثة في جانب التعاطي السياسي، بل على العكس نحن الآن نقترب من نهاية نصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ونجد أن الإبداع يتراجع ويُضيَّق على التيارات الفكرية التنويرية. وما ينطبق على الرجل بذلك ينطبق على دور المرأة في مختلف مفاصل الحياة. فالمرأة مازالت تحاول في بعض البقاع العربية أن توجد لها موطئ قدم في تطبيق مظاهر الحداثة بين الشق الإبداعي والاجتماعي.

 ولاشك أن الخوض في الحداثة يتطلب المزيد من طرح الأمثلة والمقاربات، بيد أن الحداثة في المنظور العربي لا تزال تخفي تحت رمادها المزيد، وهي بحاجة إلى معالجة فلسفية معمقة ضمن أسلوب ديناميكي لنتمكن من الوقوف عند حصيلة تجربة الحداثة العربية، سواء في ضوء ما قيل من طروح الفكر النهضوي التنويري العربي ، أم من خلال اشتغالات الفن والثقافة والأدب والموسيقا، لا سيما أنها دخلت في الفكر العربي من باب الأدب والحساسيات الفنية، مثلما دخلت من باب الاتجاهات الفكرية. وأحسب أن ثمة قضايا إشكالية بين النظرية والتطبيق لا تزال تمطر المشهد العربي بسيل من سهام الأسئلة على المهتمين بهذا الشأن.

لأن الحداثة بما تحمل من عناصر وأبعاد لا يمكن أن تتحقق إلا بعد تغيير نمط الحياة الفنية والاقتصادية والثقافية، وفرض نمط جديد بأدوات حداثوية تحمل هوية الزمن القائم الحاملة للأصالة العربية ومحليتها، وعلى حد قول الموسيقار محمد القصبجي: لا يمكن تطوير الموسيقا العربية إلا من خلال الموسيقا العربية نفسها.

العدد 1104 - 24/4/2024