الاعتقال السياسي والحوار السياسي لا ينسجمان

حينما أصبح للبلاد دستور جديد نص على ضمان الحريات والمساواة، باعتبار أن الحرية حق مقدس وبما يكفل للمواطنين الحرية الشخصية والمحافظة على كرامتهم وأمنهم، وبضمن ذلك حرية الاعتقاد والتعبير والاجتماع والتظاهر السلمي والإضراب عن العمل وتكوين الجمعيات والنقابات، واعتبار المواطنة مبدأ أساسياً مع كل ما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات، كما تضمن المبادئ الأساسية التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان – توقع المتفائلون والحريصون على مصلحة الوطن أن يجد هذا الدستور تطبيقاً عملياً له على أرض الواقع، خاصة أن الممارسات اللاديمقراطية (فضلاً عن الجوانب الاقتصادية والاجتماعية) خلال العقود السابقة، كانت واحدة من الأسباب الداخلية للأزمة الحالية الناشبة في البلاد. وقد شكل الاعتقال السياسي لذوي الرأي الآخر وإبقائهم دون محاكمة لسنوات طويلة دون محاكمة، أحد أبرز هذه الممارسات المنافية لحقوق الإنسان.

لقد نصت مواد الدستور الجديد على أن لكل مواطن الحق في أن يعبر عن رأيه بحرية وعلنية بالقول أو الكتابة أو بوسائل التعبير الأخرى. كما نص على أنه لا يجوز تحري أحد أو توقيفه إلا بموجب أمر أو قرار صادر عن الجهة القضائية المختصة، أو إذا قبض عليه في حالة الجرم المشهود، ولا يجوز تعذيب أحد أو معاملته معاملة مهينة تحت طائلة عقاب من يفعل ذلك.

إلا أنه من المؤسف أن هذا الدستور الذي أقر منذ ثمانية أشهر، لم يجد،  وخاصة في الجانب الديمقراطي منه  تجسيداً حقيقياً له في حياة البلاد حتى الآن. ولا تزال تمارس عمليات الاعتقال السياسي. ولا نعتقد أن التآمر الخارجي على سورية واستمرار الأزمة المتعددة الجوانب داخلها، وبضمنها استخدام العنف المسلح من قبل المجموعات الإرهابية، يعد مبرراً مقبولاً لاستمرار هذه المظاهر والممارسات اللاديمقراطية. بل على العكس تماماً، إن السير قدماً نحو الإصلاح الديمقراطي في حياة البلاد يمكن أن يساهم إلى حد كبير في الخروج من هذه الأزمة. فهو، إلى جانب أنه ينزع من البعض ذريعة استخدام العنف، يساعد على خلق مناخ ملائم للاتجاه نحو الحوار السياسي والمصالحة الوطنية المنشودة.

لقد صدر مؤخراً مرسوم بالعفو عن الجرائم المرتكبة قبل تاريخ 23/10/،2012 وشمل هذا المرسوم العفو كلياً أو جزئياً عن جرائم القتل والسرقة والتهريب والمخدرات والرشوة وغيرها. ومع تقديرنا للدوافع الإنسانية لمثل هذا المرسوم، فإننا نرى أنه من الأجدر أيضاً أن يطلق سراح معتقلي الرأي الذين لم يحملوا السلاح.

وقد أصبح جلياً الآن، بعد مرور نحو عشرين شهراً من اندلاع الأزمة الحالية في سورية، أن العنف لا يمكن أن يشكل حلاً لهذه الأزمة، وهو لا يولد إلا مزيداً من العنف، وبالتالي الكثير من الضحايا والدماء والدمار للبنية التحتية والخراب الاقتصادي والمآسي الاجتماعية والإنسانية في طول البلاد وعرضها، وأن الطريق الناجع للخروج من هذه الكارثة الوطنية هو السعي الصادق والمخلص من جميع الأطراف نحو حوار وطني واسع وشامل يحقق المصالحة الوطنية، والانتقال السلمي والآمن إلى مرحلة جديدة في حياة البلاد تضمن الحرية والمساواة والحياة الكريمة لجميع أبناء الوطن، مما يقطع الطريق على جميع القوى التي تسعى إلى تهديد حرية الوطن ووحدته.

إن إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، سواء السابقين أم الذين اعتقلوا على خلفية الأحداث في الأشهر الماضية، ولم تتلطخ أيديهم بالدماء، يشكل خطوة ضرورية من أجل الحوار مع قوى المعارضة الوطنية التي تتخذ موقفاً رافضاً للعنف واستخدام السلاح، وكذلك للتدخل الخارجي، على طريق الحل السياسي المنشود. ومن المؤكد أن الاعتقال السياسي والحوار السياسي في وقت واحد لا يجتمعان.

العدد 1105 - 01/5/2024